Site icon IMLebanon

الجبهة الإشتراكية الوطنية: إنموذج لم يتكرّر

 

سُجّل للجبهة الاشتراكية الوطنية عام 1951 انها اول ائتلاف انتخابي، ثم كتلة نيابية، يُقرنان الانتخابات النيابية بفكرة انقلاب يُصدَّق حصوله، وقد حدث: اقلية تمسي اكثرية. ترغم رئيس الجمهورية على التنحي بلا قطرة دم او تقويض النظام. تأتي برئيس من صنع الانقلاب يحمل المعارضة الى السلطة فتلزمه سلفاً برنامج تعهّدات اقرب الى اصفاد

 

يوم خاضت الانتخابات النيابية عام 2005، توخت قوى 14 آذار الامساك بكل مفاصل السلطة، في مرحلة جديدة احدثها اغتيال رفيق الحريري. بدا المطلوب اولاً السيطرة على مجلس النواب بغالبية مرجّحة، تفضي الى القبض على اولى حكومات ما بعدها بغالبية مماثلة، وصولاً الى اسقاط اميل لحود. اذذاك تكتمل الحلقة الاخيرة في الانهاء الكامل للحقبة السورية الطويلة. في سبيل هذا الهدف، قبلت باجراء الانتخابات وفق قانون نافذ قبل خمس سنوات نُسِب الى غازي كنعان بلا ادنى تعديل، تشبثّت بالموعد بلا تساهل في 31 ايار، اشترطت حكومة حيادية رئيسها ليس في صفوفها هو نجيب ميقاتي واعضاؤها غير مرشحين.

 

شأن ما فعل السوريون بعد انتخابات 1992، بأن يجدوا في مجلس نيابي جديد يسيطرون عليه مفتاح القبض على مؤسسات الدولة، من رأس هرمها الى الاسلاك العسكرية والامنية والقضاء والادارة، رامت قوى 14 آذار الجسر نفسه الى حكم البلاد. عُدّ ما حصل عامذاك انقلاباً على واقع قائم تجاذبه العداء، بين الموالين لدمشق ومناوئيها، وبين هؤلاء الاخيرين ــ الحلفاء السابقين لها ــ بعدما انقلبوا على ذواتهم وصاروا ضدها.

 

وثيقة «الضمانات المعنوية» التي التزمها المرشح الرئاسي كميل شمعون، وقّعها: (من اليمين): كميل شمعون، انور الخطيب، كمال جنبلاط، غسان تويني، عبدالله الحاج، ديكران توسباط.

رغم انها وصلت الى نصف الطريق، وهو الامساك بالبرلمان والحكومة، واخفقت في النصف الثاني الاكثر دلالة وهو اطاحة رئيس الجمهورية، لم تكن انتخابات 2005 ــ وكانت تجزم بأنها تُحدث انقلاباً جوهرياً في السلطة ــ المحاولة الاولى يولد منها قرار فرض انقلاب يقلب البلاد رأساً على عقب..

مرتان قبلاً تسبّبت انتخابات نيابية في انقلاب حقيقي، انتقل بالداخل من حقبة الى نقيضها: عام 1951 عندما ساهم نجاح الجبهة الاشتراكية الوطنية في حمل بشارة الخوري على التنحي، عام 1968 حينما افضى فوز الحلف الثلاثي في جبل لبنان الى تصفية الحقبة الشهابية. كلتا الانتخابات كانتا على مقربة من موعد انتخابات الرئاسة، بعد نحو سنتين. كانت المهلة كافية كي تتحوّل الاقلية المعارضة الى اكثرية مقرّرة بانضمام حلفاء اليها. نجحتا حيث اخفقت في ما بعد محاولة 2005. بسبب ما حدث عام 1951 والتنحّي الارادي للرئيس، لم تتكرّر استقالة رئيس آخر للجمهورية تحت وطأة الشارع بداية، ثم في صناديق الانتخابات النيابية قبل الوصول الى صناديق البرلمان، ولا بارغامه بقوة الحرب حتى كعامي 1958 و1976.

ما فشلت فيه انتخابات 2005، كسبته سواها قبل 54 عاماً: لم يُكتفَ بحمل بشارة الخوري على الاستقالة، بل جيء برئيس من صفوف المعارضة. ذلك ما حصل كذلك في رئاسة 1970.

لأنها السابقة، وقد وصفها احد اعضائها غسان تويني يوماً بأنها “اغرب وافعل اتحاد بين متعارضين»، لتجربة الجبهة الاشتراكية الوطنية في الانتخابات النيابية، ثم مع تحوّلها الى كتلة نيابية، دلالة مختلفة لم يتكرّر انموذجها. جمعت اربعة احزاب هي الحزب التقدّمي الاشتراكي ممثلاً بكمال جنبلاط وانور الخطيب، حزب الكتلة الوطنية ممثلاً ببيار اده وعبدالله الحاج، الحزب السوري القومي الاجتماعي ممثلاً بغسان تويني، حزب الطاشناق ممثلاً بديكران توسباط، الى سياسيين مستقلين اثنين هما كميل شمعون واميل البستاني. ثمانية نواب جرّوا وراءهم في اشهر قليلة الغالبية النيابية.

 

ما فشلت فيه انتخابات 2005، كسبته سواها قبل 54 عاماً: لم يُكتفَ بحمل بشارة الخوري على الاستقالة، بل جيء برئيس من صفوف المعارضة

بضعة مغاز ارتبطت بالجبهة:

 

اولها، خلافاً للكتلتين الوطنية والدستورية، لا يرئسها زعيم ماروني ينضوي زعماء الطوائف الآخرون في ظله. لم يكن اعضاؤها الاولين في طوائفهم في مطلع الخمسينات، وليسوا وحدهم ممثليها. الا انها قاسمت الكتلتين الاخريين جزءاً من جبل لبنان.

ثانيها، رغم ان الكتلتين الوطنية والدستورية كانتا لا تزالان قائمتين، وتتنافسان وجهاً لوجه في انتخابات 1951 بعد انتخابات 1947، تصرّفت الجبهة الاشتراكية الوطنية على انها وارثتهما معاً. انتزعت من الكتلة الوطنية كمال جنبلاط، ومن الكتلة الدستورية كميل شمعون. سرعان ما ذابت فيها لاحقاً الكتلة الوطنية ضد عدوها التاريخي بشارة الخوري.

ثالثها، ليست اولى لوائح معارضة في انتخابات نيابية عامة. الا انها الاولى ــ حتى ذلك الوقت ــ تضع برنامجاً انتخابياً يكاد لا مكان للتعهدات والوعود والمواقف السياسية فيه. تناول حصراً قضايا اجتماعية ومعيشية وصحية على انها واجهة مشكلات المرحلة تلك في الولاية الثانية لبشارة الخوري.

لعل الاكثر مدعاة للانتباه انه لم يؤتَ على ذكر “فساد” العهد سوى في الولاية الثانية المجدّدة. لم تكن تلك صورة الرئيس، ابي الاستقلال، حتى عشية الانتخابات النيابية عام 1947، بيد انها اضحت كذلك غداة تجديد ولايته قبل 18 شهراً من نهاية الولاية الاولى. بعده، بات كل كلام عن عهد رئيس يتوخى تجديد ولايته او تمديدها يقترن سلفاً بصفة الفساد، قبل ان يحصل حتى. واحدة من صور المرحلة تلك ما راح يُنسب الى شقيق الرئيس “السلطان” سليم قوله: ليس في البلاد سرايا واحدة بل اثنتان. في عسّور (ساحة رياض الصلح آنذاك مقر رئاسة الحكومة) وفي فرن الشباك (حيث قطن). كانت اشارة ضمنية ايضاً الى تقليل شأن رئيس الحكومة منذ أُبعد رياض الصلح عن السرايا في شباط 1951.

ما يقوله غسان تويني في حوار شخصي معه عن مسار الجبهة الاشتراكية الوطنية: “اول ما طالبنا به الاصلاح، ثم انتقلنا الى الاستقالة. كنا نعتقد انه(بشارة) وشقيقه سليم وابنه خليل عقبة اساسية في طريق الاصلاح. اعتقدنا ايضاً ان شقيقه هو الذي ظلمه. قرّرنا عندئذ الذهاب الى معركة اسقاط الرئيس. كمال جنبلاط الاكثر حماسة، وكميل شمعون الاقل حماسة رغم ان نوعين من المشاعر تجاذباه. الاول، تأييده ارغام الرئيس على الاستقالة كونه مرشحاً للمنصب وفي وسعه خلافته، والثاني، رغبته في عدم احداث سابقة اسقاط الرئيس بقوة المعارضة والشارع ربما استخدمت ضده مستقبلاً اذا انتخب رئيساً. وهو ما حدث فعلاً بعد ست سنوات».

في احاديث لائحة الجبهة الاشتراكية الوطنية بعيد تأليفها في 5 نيسان 1951، واصدارها بيانها الاول في الاول من ايار، ظهرت باكراً ارادة انهاء ولاية رئيس الجمهورية. في وقت لاحق على تحوّلها كتلة نيابية، تقلّب كمال جنبلاط في مواقفه. قال لغسان تويني: “انا مع استقالته ارادياً».

في ما بعد راح يقول: “لماذا ننتظر استقالته. لنطرده بالقوة».

ما يرويه غسان تويني: “توقّعنا استقالته. استقينا اخباراً من بيته عبر ميشال شيحا وميشال الخوري ان الرجل بدأ يفكّر في هذا الخيار. تصاعدت مواقف الجبهة حياله. قسم منا يريد ابعاده عن البلاد. كمال جنبلاط يطلب محاكمته بعدما طلب طرده من لبنان. اختلف معه كميل شمعون قائلاً ان الشرطين مستحيلان. اكتفى كميل شمعون باستقالة الرئيس من الرئاسة والذهاب الى بيته».

في اسباب خلافه اللاحق بعد انتخابه رئيساً مع كمال جنبلاط رفضه عرضاً جدّد الزعيم الدرزي طرحه: محاكمة الرئيس السابق وإن هو في عزلة. للسبب نفسه وتفاديه السابقة، رفض فدخل الحليفان السابقان في عداوة سياسية لم تُصفَّ مرة.

يفسّر غسان تويني فكرة هذا الائتلاف: “لا يجمع افرقاؤه سوى التناقض السياسي والعقائدي، لكن ارادة مواجهة العهد كانت اقوى. تناقضاتنا عقائدية لم تكن تلزمها المواقف من الحكم. لم تؤثر ايضاً على وحدة اللائحة ثم الكتلة الى حين انتخب كميل شمعون رئيساً للجمهورية، عندئذ اضحى التناقض داخلها اقوى من الموقف من الرئيس الجديد كميل شمعون الآتي من صفوفنا، وتحديداً اندلاع النزاع بينه وكمال جنبلاط. بدأ التنافر بين الحزب السوري القومي الاجتماعي وبيار اده ممثل الكتلة الوطنية، وبين كمال جنبلاط والكتلة الوطنية عندما راح يصفها ــ وهي حليفه منذ عام 1951 ــ بيمينية رجعية. الارمني وحده (ديكران توسباط) كان خارج التناقض. لم يكن يحمل فكرة عقائدية».

لم يكن من السهل في تجربة الجبهة الاشتراكية الوطنية اسقاط رئيس الجمهورية بقوة الشارع والديموقراطية والانتخابات، مطلع الخمسينات، في حقبة كان تداول السلطة في الدول العربية المجاورة يتوسّل الانقلابات العسكرية والقتل والاعدامات وقضبان السجون: في سوريا ثلاث مرات عام 1949، ثم في مصر عام 1952 عشية سقوط الرئيس اللبناني.

 

رئيس… بأصفاد

 

في وثيقة «الضمانات المعنوية» التي ارتبط بها مرشح الجبهة الاشتراكية الوطنية امام رفاقه في جلسة الجبهة المنعقدة في 21 ايلول 1952، في عاليه في منزل الزميل ديكران توسباط:

«اولاً ــ استقلال لبنان وضمان كيانه، وعدم التحيّز الى دولة اجنبية، والمحافظة على العلاقات الودية مع جميع الدول الكبرى.

ثانياً ــ التحرّر من العائلية ومن تأثير مكتب الرئاسة ومن المحسوبين.

ثالثاً ــ التحرّر من كل وضع استغلالي للنفوذ والمال.

رابعاً ــ اقفال مكتب محاماة المرشح لرئاسة الجمهورية بعد انتخابه.

خامساً ــ تنفيذ برنامج الجبهة الاشتراكية، وخاصة البرنامج الذي جرى الاضراب على اساسه.

سادساً ــ تعديل قانون الانتخابات على اساس الدائرة الفردية، وحلّ المجلس النيابي.

سابعاً ــ الغاء النفقات السرّية في جميع دوائر الدولة ما عدا الداخلية والمالية والخارجية.

ثامناً ــ التوظيف والترقية لا يحصلان الا على اساس الكفاية والامتحان.

تاسعاً ــ لا يتصل رئيس الجمهورية ولا يستقبل احداً من الموظفين من دون واسطة الوزراء.

عاشراً ــ لا يوافق رئيس الجمهورية بتاتاً على تعيين احد الاشخاص الملوثين لمنصب وزاري او غير وزاري.

ـ عدم التقيّد بقواعد الطائفية.

حادي عشر ــ إلغاء جميع سيارات الدولة الخاصة، ما عدا سيارة رئيس الجمهورية ووزير الخارجية.

ثاني عشر ــ تنفيذ المبدأ التالي: عدم القيام بعمل ينافي التصريحات والانتقادات السابقة الصادرة عن الجبهة الاشتراكية».