بعد مئة وأربع سنوات على نشأة الدولة اللبنانية الحديثة، وإحدى وثمانين سنة على إعلانها دولة مستقلة وذات سيادة، وصلت اليوم الى المستوى الأدنى في انحدارها العمودي نحو التفكك والتلاشي نظرا للتصدّعات الخطيرة التي باتت تحكم هياكلها البنائية في اجتماعها السياسي وفي نظمها الاقتصادية والمؤسسية والمصرفية والمالية.
يتوقف المراقب المتابع في رصده للمسار التاريخي الذي عرفته الدولة منذ لحظة استقلالها وحتى باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى من الهبوط في المجهول، يتوقف عند جملة من الحقائق الموضوعية، كان من أبرزها أربع هي الأكثر بروزا كدالاّّت توصيفية للمسارات التطورية التي واكبت الدولة الاستقلالية منذ العام ١٩٤٣ وصولا الى راهنها الحالي:
الحقيقة الأولى، إن استقلال لبنان عام ١٩٤٣ كان تعبيرا لبنانيا جامعا عن حاجة وطنية لكل تشكّلات المجتمع اللبناني بطوائفه المتعددة وبشرائحه الطبقية وبسائر نخبه وقواه المدنية من أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومهنية وهيئات وروابط أهلية على اختلافها. وقد بدأ هذا الإجماع الوطني يظهر بتجليّاته الواضحة إبان معركة الاستقلال بين ٨ و٢٢ ت٢ ١٩٤٣. أما القول ان الصيغة الميثاقية غير المكتوبة التي توافق عليها الزعيمان البارزان آنذاك بشارة الخوري ورياض الصلح هي التي أنتجت الاستقلال فهو قول لا يعكس كامل الحقيقة التاريخية، فالميثاقية بين الرجلين لم تكن سوى تعبير وانسجام مع حالة وطنية كانت قد باتت شعورا مسيطرا على سائر مناطق وطوائف وشرائح طبقات المجتمع اللبناني. فبعد ما يقرب من الربع قرن على قيام الدولة (١٩٢٠-١٩٤٣)، انخرط اللبنانيون في شبكات من المصالح الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية المشتركة لدرجة باتوا معها يشعرون بحقيقة الهويّّة الوطنية، وأن الدولة هي الحاضنة الوطنية الجامعة لكل اللبنانيين.
الحقيقة الثانية، أن الطائفية السياسية كانت بمثابة القطبة الخفية التي لم تسع النخب الحاكمة، بعد الاستقلال، الى معالجتها ومحاصرة مفاعيلها. ورد ذلك في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى التي ترأسها رياض الصلح حين قرأ بيانها الوزاري في ٧ت١ معلنا ان لبنان يتطلع الى اليوم الذي تنتهي معه الطائفية في السياسة والإدارة ومؤسسات الدولة، وفي كل ما من شانه أن يعوّق الاندماج الوطني للشعب اللبناني الواحد.
لم تلجأ النخب الحاكمة الى سحب مفاعيل الطائفية لا سيما في جانبها السياسي وتوزيعات السلطة، لا بل على العكس، كان العامل الطائفي هو المعيار الأكثر بروزا في كل مظاهر الحياة السياسية والإدارية وحتى الاجتماعية أيضا.
برز العامل الطائفي كفاعل انقسامي في المجتمع اللبناني، وهذا ما تجلّى بوضوح الصورة إبان الخمسينيات والستينيات مع بروز ظاهرة الطائفية السياسية في الوسطين الإسلامي والمسيحي، إذ في الوقت الذي تفاعلت القوى الإسلامية مع تصاعد المدّ القومي بفاعليه البعثي والناصري، وراحت معه تضفي طابعا أيديولوجيا على القومية العربية يربط عضويا بين العروبة والإسلام، راحت بالمقابل، القوى المسيحية تعمل على أدلجة القومية اللبنانية من خلفية عقيدية تربط بين خصوصية الوجود المسيحي واستقلال لبنان والدولة اللبنانية. تعاظمت الفجوة الانقسامية مع دخول الفصائل الفلسطينية المسلحة الى لبنان، حيث وجدت القوى المسيحية في هذا التطور ما يشكّل خللا في التوازنات الداخلية السكانية والعسكرية والسياسية، الأمر الذي راح يدفع بسرعة الى حرب أهلية استمرت تتلاحق بفصولها المأساوية لأكثر من خمس عشرة سنة بين ١٩٧٥-١٩٩٠. توقفت هذه الحرب ميدانيا بفعل تدخلات عربية وأجنبية خرجت بتسوية ميثاقية جديدة على أساس وثيقة الطائف لعام ١٩٨٩، التي لم تكن في الواقع إلّا تعويما لبنية سياسية للسلطة التي حكمت الدولة أكثر تطييفا للواقع السياسي والاجتماعي من ذي قبل. فقد جاءت التسوية الجديدة لترسي معادلة في الحياة السياسية على أساس المحاصصة بين زعامات الطوائف، الأمر الذي جعل الاستقلال والسيادة أمام التحدي الأصعب، حيث لا استقلال ولا سيادة في ظل الاستثمار السياسي للعصبيات الطائفية والمذهبية في كل مرة يعاد فيها تركيب وإنتاج السلطة من جديد، لا سيما مع تشكيل المجالس النيابية والوزارية وانتخاب رئيس للجمهورية.
الحقيقة الثالثة، وهي ان النظام العربي الرسمي يتحمّل المسؤولية الكبرى في إهماله معالجة الوضع اللبناني، وفي تجاهله الخصوصية اللبنانية لجهة تنوّعها الروحي والثقافي من جهة، ونزوع اللبنانيين الجامح منذ القدم للحرية والاستقلال متأثرين بعامل الجغرافية عبر تفاعل ثنائية الجبل – البحر من جهة أخرى. لم يعر النظام الاقليمي العربي الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتحت يافطة جامعة الدول العربية، لم يبادر الى المحافظة على الخصوصية اللبنانية بهدف المساعدة على توفير ما يلزم لتعزيز الوحدة الوطنية وإتاحة الفرصة لتطوير الدولة اللبنانية في الاتجاه الذي يؤسس لهوية وطنية لبنانية عابرة للطوائف والمذاهب المتعددة.
الحقيقة الرابعة، تمثلت باستغلال الخارج الإقليمي والدولي الساحة الاجتماعية والسياسية اللبنانية بوصفها الساحة الرخوة والسهلة الاختراق لاختزانها ركائز داخلية انقسامية سريعة الاستجابة للتفاعل الولائي مع الخارج القريب والبعيد، يستطيع استثماره في الاختراق والتغوّل، وفي توظيفه في مشروعاته الاستراتيجية سواء على المستوى الإقليمي أم على المستوى العالمي لناحية قيام نظام دولي جديد.
مع الحقائق الأربع المشار إليها بقي استقلال لبنان منذ ١٩٤٣ وحتى اليوم أسير التجاذبات الطائفية السياسية لا بل المذهببة السياسية في الداخل، الى قصور النظام الرسمي العربي عن دوره في معالجة الحالة اللبنانية باعتماده استراتيجية عربية من شأنها تعزيز البناء الوطني لدولة لبنانية تنعم بالاستقلال والحرية من جهة، وتكون قادرة على مواجهة التغولات والاستهدافات الخارجية من جهة أخرى.
إن لبنان اليوم، وبعد إحدى وثمانين سنة على نيله استقلاله الوطني، وصل ككيان وطني ومجتمعي ودولة الى اللحظة الفاصلة بين أن يكون أو لا يكون. فمنذ أكثر من ثلاثة عشر شهرا والشعب اللبناني برمّته يدفع غاليا أثمان حرب مكلفة جدا ليس في خسائره البشرية والمادية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وإنما، وهذا هو الأخطر على المصير الوطني، في مخاطر التهديد الواضح لاقتطاع أجزاء واسعة من أرضه الوطنية في الجنوب والبقاع وبمساحة قد تصل الى نحو ثلاثة آلاف كم٢ أي ما يمثل حوالي الثلث من جغرافيته السياسية المحددة دوليا بـ ١٠٤٥٢ كم٢. هذا مع دفع أكثر من مليون ونصف المليون نسمة من سكانه الى التشرّد والنزوح القسري والهجرة كشتات في بقاع العالم المختلفة.
إنها الحرب الأخطر على الوجود اللبناني بكل مقوماته كمجتمع ودولة وسيادة واستقلال ومستقبل لشعب سبق له أن سجّل سبقا حضاريا وإبداعا معرفيا وعلميا واستعدادا للإبداع والتميّز في نشاطه الإنساني عبر التاريخ..
أودّ في معرض الحديث عن الحرب المدمرة التي ما تزال مستعرّة وتطال بنيرانها وأكلافها الباهظة كل لبنان بكل مناطقه وتنوعاته الروحية والثقافية والسياسية، أودّ أن أشير في ذكرى الاستقلال الحادية والثمانين الى جملة حقائق على درجة عالية من الأهمية:
الحقيقة الأولى، ليس هنالك من أي مشكلة بين أبناء الشعب اللبناني بكل تنوّعاته المشار اليها، وقد ظهرت هذه الحقيقة في كل مسلسلات الحروب التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث والمعاصر..
أذكر للتاريخ اننا كنا طلابا في الجامعة اللبنانية ثم أساتذة فيها، كنا من كل الطوائف والمذاهب متفاعلين ومتشاركين ومتكاملين في أنشطة أكاديمية وتعليمية ومعرفية. وإني أشير اليوم الى الروح الوطنية في أعلى تجليّاتها في تعامل أهلنا من كل الطوائف اللبنانية الكريمة مع نازحي أهل الجنوب والبقاع والضاحية، فقد فتحوا بيوتهم لإيواء النازحين الهاربين من نيران الحرب، مقدمين لهم كل المعونة والمحافظة على أمنهم وكرامتهم. وهنا لا بد لي من التنويه بمواقف الكثيرين الكثيرين من أصحاب النخوة الوطنية والإنسانية، وأخصّ بالشكر والتقدير العالي الزملاء من الأساتذة الجامعيين العصاميين عصام خليفة وإبراهيم مارون وأسعد منصور وأنطوان ضومط، والعمداء السابقين في الجامعة إبراهيم محسن، وعبد الرؤوف سنو، وعبدلله سعيد وغيرهم الكثير من الأساتذة والأصدقاء الذين فاضت مشاعرهم الوطنية الصادقة والأصيلة في مواجهة أزمة النزوح الناجمة عن الحرب التدميرية وويلاتها.
ولا بد لي أيضا أن أشير الى موقف ملفت للدكتور عصام خليفة المؤرّخ المبدع والنقابي الوطني المتفاني في سبيل لبنان المتقدم والمتطور والسيد المستقل، هو عصام خليفة الذي أشاد بعصامية أهلنا في دير الأحمر الذين احتضنوا عشرات العائلات النازحة من البقاع والجنوب فقدموا لها كل عون لتخفيف معاناة النزوح والتهجير بسبب الحرب..
هذا هو لبنان مجتمع واحد موحّد على قواعد راسخة في الانتماء والهويّة الوطنية والمصير الواحد المشترك. مشكلتنا في نظامنا السياسي وفي الزعامات التي راحت تستثمر الطائفية والتطييف السياسي من أجل أن تبقى ثابتة وتعيد إنتاج زعامتها في كل مرة يعاد فيها تركيب السلطة الحاكمة على مستوياتها الهرمية المختلفة.
في ذكرى الاستقلال الحادية والثمانين ندعو الى وقفة ضمير لبناني وطني مترفّع عن الغرضيات والفئويات السياسية والطائفية، وشدّّّ السواعد المشتركة، وتحشيد كل الطاقات الوطنية من أجل استعادة الدولة الوطنية اللبنانية ووضعها على سكة التطوّر والبناء والسلام الوطني الشامل.
عاش لبنان الواحد الموحّد لكل أبنائه المستقل والسيد على أرضه وهويته ومستقبله.
* باحث في التاريخ السياسي والشؤون الدولية