امبراطورية إرهاب من طبيعتها ومن ذريتها. تماماً كما ينتج التُفاح تفاحاً، والعَلْقَم عَلْقماً… منذ بدايات ثورتها الخمينية، افتتحت الثورة الفارسية مع إمامها، عصر التكفير، مضافاً إلى التخوين. الإثنين معاً. الخميني كفّر كل شركائه في الثورة التي أطاحت الشاه، كحزب توده، ومجاهدي خلق، والليبراليين، واليساريين وصولاً إلى الإسلاميين والعلمانيين. لا شيء. أكثر: بدأت هذه الجمهورية بإلغاء الشعب الإيراني، الذي حملها إلى السلطة. فهناك «المرشد الإله المقدس» يحلّ محل «الله» و»إرغانوته« الفقهي محل الشعب، وفتواه تحل محل الدولة. نذكر أن الخميني قد خاض معركته من عاصمة «الملحدين» باريس. والأجهزة الفرنسية هي التي روّجت له «كاسيتاته»، ووزعتها، وسهّلت وصولها! إذاً منذ البداية، من الطبيعي أن تنتج كل مرة معادة الغرب والتحالف معه. خصوصاً، وهذا بيت القصيد، أن الثورة نجحت في عزّ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا. ومن رَحِم هذه الحرب طلعت «القاعدة» وبن لادنها، وصولاً إلى الثورة الإسلامية وخمينيها. وبدأ معها عصر جديد من الإرهاب والتكفير والقتل والمجازر: تكفير سلمان رشدي وحزب توده… والمجاهدين، وتصفية عشرين ألفاً منهم. أكثر الدولة الإرهابية.
ثورة الدم. لكن ليس من أجل مبادئ حقوق الإنسان، والتقدم، والتنوير، والحرية، بل من أجل الظلامية والرجعية، والخرافية، والقمع.
بعد الخميني، جاء «خليفته» خامنئي وكان له أن يعلن تصدير الإرهاب باسم تصدير الثورة، وتصدير الغزو باسم القيم الإسلامية، وتصدير «الاستعمار» الديني باسم توحيد الإسلام. أداة تفرقة، وانفصام، وطموحات إمبراطورية. إذاً من ولادة جمهورية الدم إلى ولادة إمبراطورية الإرهاب. والإرهاب ينجب إرهاباً، وكان أن «أنجب حزب الله« بعملية قيصرية بين دكاترة الإمبراطورية، ودكاترة النظام السوري. مولود غير شرعي، صُنِع على طريقة أطفال الأنابيب، لتصدَّر هذه البضاعة إلى لبنان، ومن ثم إلى حيث تؤمّن الحضانة المذهبية: العراق، فاليمن، فالبحرين، وطبعاً سوريا (النظام العلوي). من الاستبداد الفردي الجمهوري إلى الاستبداد الفردي الإمبراطوري. وما يجمع الاثنين، العنف، والفتنة المذهبية، كوسيلة تقسيمية للعالم العربي (بدأوا حيث انتهت إسرائيل، حليفتهم وخليلتهم السرية).
[ الربيع الإيراني
وعندما اندلع الربيع الإيراني، بجماهيره، وناسه وتعدده، وانبثاقه من الحاجة إلى الثورة المدنية على الثورة الإرهابية، لقي من القمع والترهيب والقتل ما سبق أن لقيه حلفاء الخميني من الخميني. لا ناس. لا جماهير. لا أصوات. نزل إلى شوارع طهران مئات الألوف، فحوصروا بالرصاص والقوة المفرطة، وكذلك بالاتهامات ذاتها التي اتهم بها حلفاء «أبي» الثورة أي الخميني: العمالة للغرب، التكفير، الخيانة، المسّ بالذات الإلهية. وفتحوا السجون على مصاريعها، ليزجّوا بألوف المناضلين فيها، من الشبان والشابات والمثقفين والناس… وكذلك رموز الانتفاضة، الموسوي، كروبي، وتهديد رفسنجاني… وهؤلاء من مؤسسي الجمهورية الأوائل. «هدأت» الثورة، وطاف على صمتها «الباسيج» الجديد، و»الحرس الثوري»، والمخابرات، والبلطجية. إذاً ساد الداخلَ القمعُ الاستبدادي، وكمّ الأفواه، ونظمت عمليات الترهيب في الميادين، والجامعات، والثقافة، وفي المناطق والولايات. وهكذا ظن الطاغية المؤمن خامنئي، أنه بات أسهل عليه تصدير غزوه، وحروبه، عبر تفقيس «عملاء» له، في الخارج، حزب الله «عُيّن» مقاومة إيرانية في الجنوب اللبناني. وابتكر أنصار الإسلام في العراق والحوثيين في اليمن… عدة العملاء المتنقلة باتت في جهوزيتها العدوانية، والمرتزقة ذوو «الأقنعة» المذهبية، على اكتمال استعدادهم: المال، والسلاح و»العقيدة» المزيفة… ومشروع الهلال «الصهيوني»، كحدود للإمبراطورية، فوق أنقاض العالم العربي.
[ فصول الغزو
وهكذا بدأت فصول الغزو بإبرازها وأولها في لبنان: ضرب الدولة، والمؤسسات، والجيش والجمهورية، تساعدها على ذلك الوصاية المذهبية والجمهورية العائلية المذهبية السورية، على قواسم مشتركة: حماية إسرائيل في الجنوب (بعد تحريره)، وحماية الجولان بعد تهويده، واستفراد الكيانات العربية.. وبعد هزيمة الخميني «المذلة» بيد صدام حسين، كان لأميركا بوش أن تنتصر لإيران، وتعقد حلفاً معها (ووراءهما إسرائيل طبعاً) في غزوها العراق، وخلع صدام حسين. وكما ائتلف النظامان الإيراني والسوري للهيمنة على لبنان، ائتلفت إسرائيل واميركا لتسليم العراق العربي إلى إيران الفارسية. وكان التقسيم. والترهيب والتمييز العنصري، والديني، والاثني والسياسي. سُهلت الأمور أمام سلوك مشروع الإمبراطورية، بعد سقوط صدام، واسترهان لبنان، لتمتد براثن إيران إلى البحرين، وعمّقت بالمال والمأجورين، الفتنة المذهبية… لكن السعودية ودول الخليج أحبطت «حلمها» بأن أسقطت ولاية من ولاياتها «الموعودة». واندلعت ثورة الأرز وطردت الجيش السوري من لبنان، فتقلصت «الولاية» الفارسية في بلاد الأرز، وهُزِم حلفاء إيران ومرتزقتها وحلفاؤها في الانتخابات النيابية مرتين ليسقط بذلك العنصر الشعبي: فانتصفت «الولاية» الموعودة وها هي تترنح اليوم في أنفاسها الأخيرة. وانفجر الربيع السوري، وهزّ أركان النظام، وزحفت الأكثرية المقموعة، أي الشعب السوري، بكل فئاتها، في تظاهرات سلمية. كاد النظام يسقط، فما كان للإمبراطورية «المغولية» أن أرسلت عملاءها في أعداد كبيرة من بقاع العالم، وخصوصاً حزبها الأثيري في لبنان، لنجدة النظام المتهاوي، لتحوّل الثورة من سلمية مدنية إلى مسلّحة ومذهبية. ثم كان لها، بعد إرسالها حزبها «اللبناني» العميل، أنه «فرّخت» تنظيمات أصولية، ليبدو الصراع وكأنه بين النظام «الديموقراطي» الحضاري! وبين الإرهاب: داعش وُلد في العراق بعملية قيصرية ليكون الرديف المقنع لحزب الله: إذاً بات التحالف ثلاثياً: الحرس الثوري (سليماني + حزب الله) + النظام السوري + داعش؟ وراح الإعلام المرتزق يصوّر «داعش» الإرهابي وكأنه صنيعة السعودية وتيار المستقبل وتركيا… للتمويه وخداع الرأي العام ولإقناع الغرب بأن النظام السوري يحارب هؤلاء التكفيريين، والإرهابيين (أي داعش في الطليعة، ثم النصرة). لكن اكتشف الأمر: لا مواجهة بين حزب الله وداعش. لا مواجهة بين النظام السوري وداعش. بل القيام بدعمه وتسهيل الأمور عليه، ومساعدته في حربه على الجيش الحر، الذي ضعف وجوده، ليقتصر «الحضور» الميداني بين النظام «الحضاري» الذي يحارب إرهاب «داعش» (حليفته). وبدا عبر «الانتصارات» الموضعية التي حققها «الثلاثي»: داعش + النظام + مرتزقة إيران، وكأنّ كأس سقوط بشار قد ابتعدت. لكن على الرغم من ذلك، وبعدما اجتمع معارضو هذا الثلاثي (المدعوم من إسرائيل وأميركا) في حلف موحد نسبياً، بدأت الانهيارات، من إدلب، وجسر الشغور، ودرعا.. فإلى القلمون.. لم ينفع النظامَ كلُّ هؤلاء الحلفاء «الإرهابيين» وها هو اليوم في أرماقه الأخيرة، وكأنه يوضّب «حقائبه» ويمحو آثاره بقتل رموزه وأدواته، كرستم غزالي. لن يترك شهوداً على جرائمه بعد «رحيله»! تصفية الإفلاس. لكن إيران، التي باتت تسيطر كلياً على النظام، وبات بشار الأسد، مجرد «دمية» في يديها، تسعى اليوم من جديد إلى تعويمه لتعويم وجودها. لكن انتصارات المعارضة وضرب أسطورة «داعش» وهزيمة سليماني، أرادوا تعويضها بانتصار أقل من رمزي، انتصار إعلامي: وها هو حزب الله (المهزوم في سوريا واليوم) يخوض معركة «ردّ الاعتبار» في القلمون. فمن جهة هناك «النصرة» ومقاتلو المعارضة، ومن جهة أخرى، بالتضامن والتكافل النظام وحزب إيران وداعش في شبه قيادة واحدة. وإذا كان ثمة التباس بين علاقة داعش وحزب الله (كحليفين)، فإن معركة القلمون أكدت وضوح هذه العلاقة. وانكشف الأسد وخامنئي، اللذان تأكد أنهما وراء تنظيم داعش البربري والإرهابي والتكفيري. ورقة التين سقطت. وبين القلمون، وما قبله، انهزمت إيران في اليمن (سقطت «ولاية» أخرى مزعومة لها بعد البحرين، وسوريا، ولبنان). انتفضت السعودية التي بات الحوثيون وجيش الرئيس الخليع والمخلوع علي صالح، يهددانها على حدودها. فاليمن هو الحديقة الخلفية للسعودية. وهو البلد العربي العريق، تاريخاً وثقافة وهوية وشعباً. وهزّت هذه الهزيمة «المفاجئة» الأسطورة الإيرانية… التي تسلك ما تشاء من الدروب وتنجح في استراتيجيتها التوسعية (كإسرائيل). وكما هزم حزب الله في الجنوب إسرائيلَ وسلّمه إلى إيران كهدية، ها هي السعودية والمعارضة اليمنية، تنتصران على الغزاة من فارس، وعلى هذا الرئيس الذي خلعه شعبه ورشقه بالأحذية (الثورة اليمنية في سلميتها طردت علي صالح من الحكم)، لتسلّم اليمن إلى أهله. لم يبق من «الولايات» العربية التي زعمت إيران أنها جزء منها، غير بقايا في لبنان وفي سوريا وفي العراق… وفلول في اليمن. إنه الهجوم العربي والوطني المعاكس، نجح في تحطيم الأوهام الفارسية وهلالها الصهيوني.
[ تعويض
فهل تنتظر إيران والنظام السوري معركة القلمون الجانبية ليستنهضا «آمالهما»، أم أنهما ينتظران «نصراً» إعلامياً، يعوّض عن تفتت طموحهما: إيران المفجوعة بإمبراطوريتها المتهالكة، والنظام السوري المضروب بتفكك بنيته، وهيكله، وجيشه، ومخابراته. إيران، تنتظر تعويضاً عن خسارتها في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن والبحرين، في معركة، لجأ فيها الحزب إلى الأولاد والصبية، بالحيلة والإرغام والترغيب، من بيئته، التي علينا أن نتوقع عنها انتفاضة شعبية شيعية ضده. سليماني انكسرت هالاته ودروعه في أكثر من موقع، وانسحب ذليلاً من ساحات القتال. و«حزب الله» كأنه استنفد مخزونه «الشبابي» القتالي، ليلجأ (كهتلر) إلى الصبية، ويقدمهم أضحيات على مذبح أربابه الإيرانيين.
[ كرتون
وبعد انقشاع كثير من الغبار، تبدو هذه الإمبراطورية الفضفاضة على الملالي، وكأنها من كرتون. وَدعْكَ، من «تنفّخ» نرجسيات هذا النظام وادعاءاته، لأن ما أخذه من خلال عملائه وإجرامه والتنظيمات الإرهابية التي صنعها، بدا مجرد مواقع مخلخلة، ومتآكلة، وهشّة، مثل «جنوب لبنان»، أو ما يحتله «حزب الله»، كالضاحية، أو ما يسعى إلى تدميره في لبنان، لإثبات وجوه. بل بدأ كل ذلك يتفكك تحت أقدام حزب الله. وكثير من المعلومات يوحي أن بيئته التي خدعها بالتضليل، والنفاق، ها هي تكشفه: مجرد عميل (كسائر العملاء) لدولة خارجية تدعي حمايتها. وما الأصوات التي بدأت تعلو وتصرخ محتجّة على سَوْق أبناء «كانتون» الحزب إلى سوريا، وإرجاعهم في توابيت، سوى ملامح انتفاضة شيعية ضده. فقد اكتشف الناس أن هذا الحزب (الذي نفخ في مخيلاتهم الأوهام) بات كابوساً عليهم، وعلى أبنائهم، وعلى مصيرهم، وعلى علاقتهم حتى بالشعب اللبناني والعرب، فالحزب الانعزالي (كما علمتنا الحروب المذهبية) يعزل بيئته أولاً بكل ما تعني الانعزالية من سلبيات. وإذا كان هذا الحزب يتوهم (وهو من أهل المتوهمين)، أن «انتصاراً» هنا، أو خطاباً هناك، أو مغامرة هنالك، يمكن أن تعوّض عن تساقطه المدوي المستمر، وتحسين صورته أمام ناسه، أو توفر له غطاء لممارسة مزيد من القمع عليهم وتفتح له من جديد إمكانية تجديد تنفيذ مخططات التهويل، هي مجرد هلوسات من بدأ يحس أن الأرض والبُسط والسجّاد… تنسحب من تحته ومن تحت أقدامه. أما خطب الانتصارات الإلهية، والمعجزات، وأسطورة «العملاق« وعنتر وشمشون فقد باتت من متاع الماضي. بل صارت موضع سخرية وتندر وطُرفاً؛ فلا ترسانته الإيرانية تنفعه، ولا ترساناته الإعلامية وتزييفاتها، واختلاقاتها، تشد من أزره!
وهنا بالذات نستذكر، بكل وضوح، مراحل تساقط الميليشيات المذهبية في حروبنا، وانخلاعها عن عروشها الدموية، نستذكر ذلك ونحن نعاين مآلات هذا الحزب… وكذلك مآلات «إمبراطورية» أربابه… الكرتونية!
[ أم حسن «أنطيغون» لبنان!
وأخيراً يكفي هذا الصوت النسائي المدوي، صوت أم حسن الذي قتل «حزب الله» ابنها الأول في سوريا، وخطف الثاني ليتاجر بدمه. قالت أم حسن لنصر الله «كفى». ولحزب الله كفاكم خداعاً، ونفاقاً، واستباحة وترويعاً. فأبناؤنا لنا، وليسوا لكم، ولإيران ولبشار الأسد.
صوت طالع من عمق الفاجعة. فاجعة أم بولدين (نتمنى أن يعود ابنها سالماً إلى لبنان). من عمق اليأس. من عمق القهر (نتذكر هنا أمهات كثيرات أطلقن الصرخة ذاتها ضد الميليشيات السابقة، عندما ساقوا أبناءهن إلى حروب الآخرين).
أم حسن هي «أنطيغون» لبنان وأنطيغون بطلة مسرحية اليوناني سوفوكل، التي تمردت على الطاغية، ودفنت، ضد إرادته وجبروته، شقيقها الميت.
وكما صرخت أم حسن صرخة «الحرية» و»التمرّد» وكسرت حواجز الإرهاب التي رفعها «حزب الله»، فإن أنطيغون، كانت الصرخة الأولى التراجيدية، التي أسقطت الطاغية اليوناني.
إنها الأسطورة التي تصير واقعاً. أو الواقع الذي يصير أسطورة.
ونظن أن أم حسن في صرختها المدوية هزّت كل لبنان، وكل من قرأ نصوصها وسمعها، على موقعها…
فما كان أحزن أم حسن عندما راحت تتوسل بعض بلطجية «حزب الله» برد ابنها.. فزعبوها! وهي عبارة عامية جنوبية تعني «طردوها شرّ طردة»! أم حسن اليوم في شجاعتها، هي أكثر من أم مفجوعة، وأكثر من مواطنة عادية: إنها رمز الانتفاض على الخضوع. ورمز الخروج من القطيع المذعور!