IMLebanon

ثرثرات في الإصلاح اللبناني

لم يكن مستغرباً خروج هيئة الحوار الوطني التي انعقدت لثلاثة أيام، بخواء أسوة بالاجتماعات التي عقدت سابقاً. لكن الجديد الذي اخترق الهيئة هو اضطرارها إثارة قضايا أساسية تمس واقع البلد وتحتاج الى مبادرات إصلاحية فعلية، على رأسها إقرار قانون للانتخاب وملء الشغور الرئاسي الذي يمثل المدخل لأي طرح إصلاحي.

اصطدم المتحاورون بحجم القضايا الضاغطة على البلد، سواء منها ما يتصل بالصعيد السياسي من قبيل تعطيل المؤسسات الدستورية، التنفيذية منها والتشريعية، او بحجم المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي بات الشعب اللبناني يئن بقوة من العجز عن إيجاد حلول لها. هذه القضايا جعلت بعض المتحاورين يتحدثون عن وجوب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكأنهم اكتشفوا «البارود»، فدخلت المزايدات من هنا وهناك، وعلت التصريحات الفارغة، وكأن كل واحد من المتحاورين يخاطب التاريخ ويسجل لنفسه مآثر اكتشاف ضرورة الإصلاح السريع لمعضلات البلد.

من المفارقات ان طرفاً مثل «حزب الله» بدأ يتحدث عن الحاجة الى الإصلاح، وهي كلمة جديدة في قاموسه، في وقت يمارس تعطيل الإصلاح في حلقته المركزية أي منع انتخاب رئيس للجمهورية. سائر القوى ترمي المطالب في وجه الآخرين في سبيل الإحراج. لا يبالغ المرء اذا ما اتهم المتحاورين المتحدثين بالإصلاح، بأنهم يفهمونه صفقات وتقاسم حصص بين بعضهم البعض، من قبيل الادعاء بالعودة الى وثيقة الطائف التي تنص على إنشاء مجلس شيوخ، وهو ما جعل السجال ينفجر فوراً حول الطائفة التي يجب ان تؤول اليها رئاسة المجلس، هل هم الدروز ام الروم الكاثوليك، وهو ما ينطبق عليهم المثل الشعبي بأنهم يريدون «تقاسم جلد الدب قبل صيده». لم تغب سائر الفضائح المتصلة بحصص النفط ومعامل الكهرباء وصفقات الالتزامات من بعض السجال.

لعل أبرز المفارقات في الثرثرة حول الإصلاح هو النقاش المستعصي حول قانون الانتخاب، وهو نقاش لم يتوقف منذ سنوات وعجزت الطبقة السياسية عن إنجازه. لا شك في أن هذا العجز عن إنتاج قانون انتخابي يرتبط بفهم كل طرف طائفي لما يعطيه إياه القانون على حساب الأطراف الأخرى. ناهيك بأن نقاش القانون أفرز أكثر الأفكار تخلفاً وتزمتاً وفئوية عبرت عنها جميع الأطراف السياسية المتحاورة من دون استثناء. إذا كان اتفاق الطائف قد كرّس المحاصصة الطائفية في جميع المواقع السلطوية، فإن أسوأ ترجمة لهذه المحاصصة كانت ولا تزال في نقاش مشاريع قوانين الانتخاب التي وصلت الى العشرات، تغيب فيها جميعاً الوصول الى تمثيل شعبي فعلي يراعي مصالح المجموعات التي يتكون منها البلد.

ما يدعو الى الدهشة ان المتحاورين، بعد أن داروا وتساجلوا حول الإصلاح السياسي ومدخله عبر التمثيل الشعبي من خلال قانون الانتخاب، وجدوا أنفسهم أمام عودة لاستحضار بعض ما ورد في برنامج الحركة الوطنية الصادر عام 1975. هذا البرنامج الذي تتحمل الطبقة الحاكمة، المتحاورة راهناً مسؤولية رئيسة في إجهاض محاولة إصلاحية تحديثية لم يعرفها لبنان الحديث إلا في بعض محطات عهد فؤاد شهاب. عاد المتحاورون الى اقتراح الحركة الوطنية بإنتاج قانون انتخاب قائم على جعل لبنان دائرة واحدة واعتماد النسبية المطلقة فيه.

يجري استنساخ هذا القانون خارج سياقه التاريخي، عندما اقترحت الحركة الوطنية هذا القانون، كانت تصدر فيه عن واقع وجود قوى شعبية عابرة للطوائف تمثل حوالى أربعين في المئة من الشعب اللبناني وفق مجموع الأصوات التي نالها ممثلو الأحزاب والقوى الديموقراطية في انتخابات العام 1972. أدت الحرب الأهلية المتوالية عقوداً الى تآكل هذا الموقع الشعبي لصالح هيمنة الطوائف على البنى اللبنانية وعلى الشعب اللبناني على السواء. تحولت الاستقطابات الطائفية الى قوى طاغية فيما تراجعت الى هامش الهامش القوى العابرة للطوائف، بحيث باتت الدعوة الى لبنان دائرة واحدة تضمر هيمنة طائفية عددية على المجلس النيابي القادم. لذا ليس مستغرباً ان تكون الشيعية السياسية المتمثلة بحركة أمل و «حزب الله» أكثر القوى حماسة وتشديداً في طلب قانون انتخاب على أساس لبنان دائرة واحدة على قاعدة النسبية المطلقة.

مما لا شك فيه أن البلد في حاجة الى مبادرة إصلاحية، ومن المؤكد أن هذه الطبقة الحاكمة والمتحاورة ليست مؤهلة بالمطلق لإطلاقها. فهل ينتج عجز ممثلي الطوائف في مواجهة قضايا البلد الضخمة فرز قوى جديدة تحمل على عاتقها إطلاق مبادرة إصلاح سياسي متجدد؟