فيما كانت وزارة الطاقة والمياه تلملم فضيحة سد المسيلحة، بعد التسرّبات في سدود شبروح والقيسماني وبريصا… ظهرت فضيحة أخرى تتعلق بالتسرّب في سد بقعاته ومحاولة تغليفه بكلفة إضافية عالية ومخاطرة أكبر. فقد بدأت عملية تغليف السد فعلاً بمواد لا يُعرف، بعد تفككها بمرور الزمن، مدى تأثيرها في مياه الشرب! رغم ذلك، لا تزال وزارة الطاقة والمياه مصرّة على برنامجها لإنشاء السدود السطحية رغم أنها جميعها لا تتحمّل تخزين المياه، وعلى اختيار مناطق أثرية وتراثية غنية بالتنوع البيولوجي مثل جنة وبسري… متجاهلة تأكيدات جيولوجيين وبيئيين بأن طبيعة لبنان الكارستية لا تسمح باستيعاب المياه كلما ارتفع منسوبها وزاد وزنها. وبالتالي، هناك أكلاف إضافية قد تفوق كلفة إنشاء السدود في المديين القريب والمتوسط وعلى المدى البعيد. ناهيك عن أن هناك شكوكاً كبيرة حول تحلّل المواد التي يتم تغليف السد بها، وأن لا معالجة لمياه الصرف في كل مناطق السدود المزمع إنشاؤها، وان جلّ هذه المشاريع هي لتجميع مياه مبتذلة خلف سدود! علماً أن كل الدول التي لجأت الى معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها في مياه الشرب بأكلاف عالية جدا، وقعت في مشاكل صحية جمّة وخطيرة، إذ بيّنت دراسة العينات أنَّ مياه السدود المعالجة تحتوي على تركيزاتٍ من مادة الرصاص أعلى من الحد الآمن الذي أقرّته منظمة الصحة العالمية، وعلى آثار مواد كيميائية معروفة باسم «بير فلورو ألكايل» و«بولي فلورو ألكايل» (تسمّى اختصاراً PFASs)، تتسبب ببعض أنواع السرطان وغيرها من المشكلات الصحية الناجمة عن تلوث المياه!
مع هذه الفضيحة المتمادية في اعتماد سياسات إنشاء سدود سطحية من دون أي دراسة استراتيجية وتقييم بيئي استراتيجي للخطط المعتمدة، ومن دون تحديد الأولويات وطرق الترشيد والتوفير والحماية، وبعد تقييم ما يحصل في سد القرعون ونهر الليطاني، يمكن طرح مزيد من الأسئلة: لماذا الإصرار على جمع المياه المبتذلة خلف السدود ثم إنشاء محطات لمعالجتها بأكلاف إضافية لا يمكن تأمينها إلا بالاستدانة؟ وهل الهدف المزيد من الاستدانة أم تأمين المياه الآمنة الناس؟ ولماذا الإصرار على تخريب النظم الايكولوجية وتهديد سلامة المياه ونوعيتها والاستدانة، ومن ثم إعادة النظر بالتعرفة حتماً لكي يسترد الدائن أمواله مع الفوائد والأرباح؟! وإذا علمنا أن الفاتورة (اشتراكات المياه) سترتفع مئة دولار (يتم تقسيطها سنوياً حتى عام 2020) وأن معالجة مياه الصرف تتطلب ضعف هذا المبلغ… تكبر الشكوك حول مستقبل هذه المادة الأساسية للعيش.
هل ندفع لكي يستثمر البعض ونزيد نسب التلوث أم لنحصل على مياه طبيعية وآمنة؟! وهل نقول وداعاً للمياه الطبيعية والمعدنية ونعتاد على تسويق مشاريع ومفاهيم جديدة مثل «المياه المعالجة»؟ ومن قال إننا بحاجة إلى مزيد من المياه مع توقعات ملغومة بقلة المصادر وزيادة الطلب والإصرار على أن لا حلول إلا بإنشاء السدود المكلفة… وإهمال حماية المصادر ومحاربة الهدر والفساد كأولوية؟
لا نريد أن نعود إلى الدراسات الحكومية المحلية المستندة إلى دراسات مرتبطة بمؤسسات التمويل الدولية. وهي مؤسسات تهدف إلى وضع يدها على هذه المادة الحيوية وجعلها سلعة نادرة ومكلفة بدل أن تكون حقاً من حقوق الإنسان. وكم يفترض أن ننتظر بعد ليأتي رئيس حكومة أو رئيس دولة أو وزير مختص، يعرف أهمية أن تكون للدولة اللبنانية استراتيجية بيئية شاملة أو استراتيجية للتنمية المستدامة تربط بين كل القطاعات؟ فقطاع إدارة المياه ليس مفصولاً عن استخداماتها في باقي القطاعات. والاستراتيجية الشاملة يفترض أن تشمل ترشيد الاستخدام في القطاعات كافة، بالإضافة إلى ضرورة اعتبار أن زيادة السكان المتوقّعة وزيادة الطلب على المياه، ليست مسلّمة يفترض البناء عليها، لزيادة المشاريع الإنشائية الكبيرة كالسدود أو تحلية مياه البحر أو معالجة مياه الصرف وتدويرها وإعادة استخدامها للشرب. فالتقارير الدولية التي تتحدث عن زيادة كبيرة متوقعة في سكان العالم يمكن أن تصل إلى عشرة مليارات عام 2050 وعن زيادة متوقعة للطلب على المياه تتراوح بين 20 و30% في الفترة نفسها، وزيادة تمركز الناس في المدن، وتغير المناخ وزيادة حرارة الأرض والتبخر وزيادة الجفاف… ليست قدراً. ولعل هذه المعطيات والتوقعات نفسها، يفترض أن تحفّز على اللجوء إلى سياسات معاكسة تماماً، كالمحافظة على مصادر المياه وحمايتها من التلوث والخصخصة والترشيد في استخدامها، وليس على زيادة المشاريع التي تخدم المستثمرين في هذا القطاع، وتجعل هذا المورد المهم والاستراتيجي في يد من يموّل هذه المشاريع، وتحت رحمة الدائنين مدى الحياة الباقية لسكان هذا الكوكب. وإذا كانت قضية تغير المناخ أصبحت واقعاً، وأن درجات حرارة الأرض سترتفع درجتين أو ثلاثاً، فهل نخزّن المياه فوق الأرض ونعرضها للمزيد من التبخر والتلوث، كما في السياسات الحالية، أم نعزز التخزين الجوفي؟!
ماذا ينفع الشعب اللبناني إذا ربحت الحكومة الثقة واستعادت الليرة سعر صرفها وحافظ الموظفون على مكتسبات السلسلة ونالت الحكومة الدعم الدولي والقروض الميسرة وعلى دفعات مسبقة إنقاذية من الشركات التي ستلتزم التنقيب عن الغاز والنفط … وفي المقابل خسرنا سلامة المياه في لبنان، بعد أن خسرنا سلامة الهواء والتربة والغذاء؟
ألم يحن الوقت لقلب المعادلات والأولويات، والعودة إلى مقولة: إن الصحة وسلامة البيئة هما النعمة الحقيقية التي أضعناها من سياساتنا الخرقاء؟