IMLebanon

الترسيم البحري: تهديد أميركي للعودة إلى الخط 23

 

وقائع الإتصالات وجلسات التفاوض (٢)

 

كان واضحاً للوفد اللبناني المفاوض أنه إذا قَبِلَ وفد العدو الإسرائيلي المفاوض التفاوض مع لبنان من دون شروط مسبقة وعلى أساس القانون الدولي، فذلك يعني ضمناً تسليم العدو بتطوير لبنان لموقفه واستبدال الخط 23 بالخط 29، ولهذا التسليم نتائج قانونية عديدة أبرزها توسيع رقعة المنطقة المتنازع عليها جنوباً بمساحة 1430 كلم2، كذلك نشوء موجب قانوني بالامتناع عن القيام بأي أنشطة غازية أو نفطية في هذه المنطقة قبل حلّ النزاع، وهذا يشمل حقل «كاريش» الذي كانت تنوي شركة «إنرجيان» المتعاقدة مع حكومة العدو البدء بأعمال الاستخراج منه في الأشهر المقبلة. كما أنّ الكيان الإسرائيلي يعلم علم اليقين أنّ أي عملية تفاوضية مفتوحة ومبنيّة على القانون الدولي ستفضي في نهاية الأمر، ومهما كانت تقنية الترسيم المعتمدة، إلى تبنّي خطّ يقع جنوب الخط 23 كحلّ نهائي للنزاع، ما يعني استحصال لبنان على كامل المنطقة 860 كلم2 بالإضافة الى مساحة بحرية إضافية تقدر بمئات الكيلومترات المربعة.

 

جلسة التفاوض الثالثة

 

واستكمالاً لدعوة الوسيط الأميركي السفير جون دي روشيه في نهاية الجلسة الثانية حول الإجابة على أسئلة الوفد الأميركي التقنية والقانونية، التأمت الجلسة الثالثة بتاريخ 29/10/2020 حيث طرح هذا الوفد على طرفي التفاوض غير المباشر مجموعة أسئلة تمحورت حول تفسير قواعد قانون البحار، إلى جانب استيضاحات تقنية أخرى لها علاقة بالهيدروغرافيا وعلم الخرائط. هنا تعارضت وجهات النظر حول العديد من النقاط وأهمها إمكانية انطلاق خط الحدود البحرية من عرض البحر ودور الجزر في الترسيم البحري بالإضافة الى دقة ونوعية الخرائط الواجب استخدامها لهذه الغاية.

 

اليوم وبناءً على الاتفاق الذي يُروَج له، يبدو أنّ المطلب الأميركي – الإسرائيلي قد تحقق فعلاً ذلك لأنّ خط ترسيم الحدود المطروح وفقاً للإحداثيات التي أودعها الوسيط الأميركي الجديد آموس هوكشتاين رئاسة الجمهورية اللبنانية، أنّ هذا الخط ينطلق من عرض البحر بمسافة تبعد حوالى 5 كيلومترات من آخر نقطة برية على الساحل اللبناني وهي رأس الناقورة!

 

 

 

جلسة التفاوض الرابعة

 

بتاريخ 11/11/2020 عُقِدَت الجلسة الرابعة وقبل انطلاقها طلب الوسيط دي روشيه الاختلاء بأعضاء الوفد اللبناني ليبلغهم أنه وحسب خبراء الإدارة الأميركية لا يمكن للبنان أن يدافع عن الخط 29 وعليه العودة للمطالبة بالخط 23. فكان جواب الوفد اللبناني واضحاً وصارماً لناحية رفض لبنان فرض شروط مسبقة عليه في عملية التفاوض وثقته بحقه القانوني بالمطالبة بالخط 29. بعدها انتقل دي روشيه للاجتماع بوفد العدو من ثم عاد ليدعو الطرفين الى الاجتماع في الخيمة. استهلت الجلسة بعرضٍ طويل ومسهب قدّمه وفد العدو تضمن رداً على العرض اللبناني في الجلسات السابقة ودفاعاً عن الخط الإسرائيلي 1، لكن عرض العدو كان ركيكاً وغير مقنع لأنه احتوى على العديد من المغالطات التقنية والقانونية فضلاً عن التلاعب بالأدلة العلمية. عندها ردّ الوفد اللبناني بعرض مضاد ومدعّم بالحجج القانونية ينسف مرتكزات الخط الإسرائيلي ويؤكد صوابية الموقف اللبناني لا سيما لناحية انطلاق الخط من نقطة رأس الناقورة وعدم إحتساب أي تأثير لصخرة «تخليت» الفلسطينية. وقد خُصِصَ الجزء الأخير من العرض لتثبيت حق لبنان بتطوير موقفه من حدوده البحرية الجنوبية والمطالبة بالخط 29 كحد جنوبي لمناطقه البحرية خاصة وأنّ لبنان كان قد حفظ حقه بتعديل المادة 3 من المرسوم 6433/2011.

 

لم يرق الأمر للوسيط الأميركي كما لوفد العدو، لذلك رفع دي روشيه الجلسة سريعاً داعياً الى تنظيم جلسة خامسة بتاريخ 2/12/2020.

 

قبل بضعة أيام من موعد عقد الجلسة الخامسة تفاجأ الوفد اللبناني بإبلاغه إلغاءها والاستعاضة عنها بلقاء ثنائي في بيروت بينه وبين الوسيط الأميركي، فحصل هذا اللقاء يوم 2/12/2020 وفيه عاد دي روشيه لمطالبة الوفد اللبناني بسحب الخط 29 من التداول مذكّراً بأنّه يَصعُب الدفاع عنه بينما يمكن الدفاع عن الخط 23. جوبه الطلب الأميركي بالرفض من قبل الوفد اللبناني مؤكداً التمسك بالخط 29 باعتباره يتطابق مع القانون الدولي، ردّ الوسيط الأميركي برفض الطرح اللبناني وبأنه سيعود الى إدارته بغية تحديد تاريخ جديد لاستناف المفاوضات في الناقورة.

 

في 22/12/2020 تواصل الوسيط الأميركي مع الوفد اللبناني موجهاً له الإنذار التالي: إمّا أن يقبل لبنان بالموقف الإسرائيلي بحصر التفاوض ضمن منطقة الـ860 كلم2 قبل نهاية النهار، وإمّا تعلن واشنطن فشل المفاوضات وانتهائها ببيان عالي النبرة محملة لبنان المسؤولية الكاملة عن فشلها. رفض الوفد اللبناني الرضوخ للتهديد الأميركي. فأذعن الجانب الأميركي للرفض اللبناني وأصدر بياناً أكثر ديبلوماسية مبدياً استعداده من جديد لمتابعة وساطته على أساس الخطوط المودعة لدى الأمم المتحدة أي الخط 1 الإسرائيلي والخط 23 اللبناني. وفي النهار نفسه غرد وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية مايك بومبيو معيداً نشر نص البيان الأميركي، فقام وزير الطاقة في حكومة العدو يوفال شتاينتز بإعادة نشر تغريدة بومبيو مؤكداً ترحيبه بموقف الوزير الأميركي المؤيد لوجهة نظر الكيان الإسرائيلي بحصر التفاوض بمنطقة الـ860 كلم2 بغية إيجاد حل وسط ضمن هذه المنطقة.

 

لم تنفع التهديدات الأميركية في دفع الوفد اللبناني وراعييْه رئيس الجمهورية ميشال عون وقائد الجيش جوزيف عون إلى التراجع عن المطالبة بحقوق لبنان كاملة. فذهبت الإدارة الأميركية إلى وقف التواصل مع الجانب اللبناني لحوالى 4 أشهر، كما لم يتم تنظيم جلسة تفاوض في الناقورة على الرغم من أنّ إتفاق الإطار نصّ في فقرته الثانية على وجوب عقد جولات تفاوض مستمرة إلى حين التوصل الى حل.

 

محاصرة لبنان

 

غير أنّ الجانب الأميركي عاد ورضخ لصلابة الموقف اللبناني، فأوفدت واشنطن بتاريخ 15/4/2021 مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية دايفيد هيل في زيارة رسمية إلى لبنان حيث التقى رئيس الجمهورية الذي أكد من جديد حق لبنان في تطوير موقفه بالاستناد الى القانون الدولي ومطالباً بالاستعانة بخبراء دوليين في مجال الترسيم وبوقف جميع الأعمال النفطية والغازية المتنازع عليها لا سيما حقل «كاريش».

 

من الواضح أنّه حتى الجلسة الرابعة من المفاوضات غير المباشرة، وما تلاها من محاولات أميركية لدفع لبنان الى التراجع عن موقفه، كان الهدف الأميركي – الإسرائيلي المشترك يتمثّل بمحاصرة لبنان ضمن نطاق الخط 23 شمالاً، وهو هدف تحقق فعلاً من خلال صيغة الطرح الأميركي المعروض على لبنان الآن، طبعاً مع بعض التعديلات المُستلحقة التي فرضتها قوة المقاومة. وبالتالي فإنّ ادعاء أركان السلطة السياسية وجماعاتهم تحقيق إنجاز تاريخي بأخذ حقوق لبنان كاملة من العدو الإسرائيلي في غير محله، بل هو تضليل للرأي العام اللبناني الذي خضع لمحاولات غسل دماغ مبرمجة من خلال تصوير التنازل التاريخي على أنه إنجاز تاريخي، وذلك من أجل استثمار هذا الإنجاز الموهوم في إعادة تعويم عهد الرئيس ميشال عون في أيامه الأخيرة. في حين كان يمكن لهذا العهد المدعوم من المقاومة تحقيق إنجاز تاريخي فعلي عبر التمسك بحقوق لبنان كاملة، وذلك من خلال اتخاذ خطوات سيادية أبرزها:

 

أولاً: تعديل المرسوم 6433/2011 لصالح توسيع رقعة الحقوق اللبنانية الى حدود الخط 29.

 

ثانياً: الاستفادة من معادلة لبنان الثلاثية التي تجسد عناصر قوته ومناعته الوطنية: شعب- جيش- مقاومة كقوة دفع وتحصين للوفد المفاوض في الناقورة، إنما في التوقيت الذي كانت تجرى فيه المفاوضات غير المباشرة وليس بعد توقفها ونجاح الأميركي في نقل التفاوض من الإطار العسكري/التقني الى كواليس السياسيين وغرفهم السوداء!

 

(*) المدير العام السابق لوزارة الإعلام

 

غداً: تراجع الرئيس وثبات القائد وفريقه