على وقع البيان الصادر عن قصر بعبدا نفياً لشائعة انطلقت من «سنتر الطيار» بتوجّه رئيس الجمهورية إلى إصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة المستقيلة، برز قرار تشكيل وفد لبناني لإطلاق عملية الترسيم البحري مع سوريا، تزامناً مع الاحتفال بتوقيع وثائق ترسيم الحدود الجنوبية، وهو ما دفع إلى مجموعة من السيناريوهات التي تحدث إحداها عن مواجهة محتملة بين موسكو وواشنطن، إن انغمس الروس في العملية. فما الذي يقود إلى هذه المخاوف؟
توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية أمام ما انتهى اليه الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بنظيره السوري بشار الاسد، والاتفاق على إحياء المفاوضات بين البلدين في شأن ترسيم الحدود البحرية بينهما، بعد فترة من الانتظار أجرى خلالها الطرفان مشاريع منفصلة لترسيم الحدود بين البلوكات اللبنانية الشمالية والسورية الجنوبية. وهو ما ادّى إلى تجميد المفاوضات التي كانت تجري بينهما بخفر، نتيجة عدم التزام سوريا بما تقول به «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار». فعدم توقيع دمشق وثائقها وضعها تلقائياً خارج الدول المنتسبة اليها، في حال تشبّه الجانب الاسرائيلي الذي لم يعترف بوجودها بعد.
وبالعودة الى تاريخ العلاقات اللبنانية ـ السورية في هذا الشأن، فإنّ ما هو ثابت ولا نقاش فيه، انّ لبنان الذي اجرى ترسيماً آحادي الجانب لحدود منطقته الاقتصادية الخالصة الشمالية بموجب المرسوم 6433 الذي صدر عن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في آذار من العام 2011، لم يراع ما كانت تطالب به سوريا، لمجرد أنّه التزم المعايير التي اعتمدتها «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار»، وتلك التي قالت بها الدراسات الدولية الخاصة بمحكمة البحار. فبات في حال نزاع مع دمشق التي ترجمته بإيداعها اعتراضاً رسمياً على الخطوط اللبنانية لدى المراجع المختصة في الأمم المتحدة في العام 2014، قبل ان تستكمل عمليات الترسيم من جانبها وفق قواعد غير قانونية، وهو ما ادّى إلى دخولها في خطها الجنوبي الرسمي إلى قلب البلوكين اللبنانيين 1 و2، بما ادّى الى اقتطاع مساحات واسعة منهما بما يقارب ما بين 750 كيلومتراً الى 1000 كيلومتر مربع.
عند هذه المعطيات، كان الملف نائماً في الأدراج الرسمية للبلدين، وغابت اي اتصالات او اجتماعات بينهما، ولم تحيي الخطوات السورية الأحادية الجانب التي اتُخذت في العام 2021 في شأن تلزيم شركة روسية مغمورة حق الحفر والاستكشاف هي شركة «كابيتال اينرجي» بتوقيع الأسد في آذار من ذلك العام، أعطاها الحق في التنقيب عن النفط والغاز في البلوك الرقم 1 المقابل للبلوكين 1 و2 اللبنانيين، من دون ان يسجّل لبنان اي موقف رسمي تجاه الخطوة، على الرغم من صدور الدراسات التي تحدثت عن «طحشة» سورية في اتجاه البلوكين اللبنانيين بنحو 750 كيلومتراً.
عند هذه الإشكالات كانت كل الاتصالات بين لبنان وسوريا مجمّدة. وعلى الرغم من الاهتمامات بترسيم الخطوط البحرية الجنوبية مع اسرائيل، لم يأت اي مسؤول لبناني او سوري على ذكر اي موقف او ملاحظة في شأن الترسيم الشمالي، إلى ان برزت خطوة عون في الأيام الأخيرة الفاصلة عن نهاية عهده، والتي أرفقها بتشكيل الوفد اللبناني المفاوض بطريقة ملتبسة، يمكن ان تنتهي مفاعيلها بانتهاء الولاية الاثنين المقبل، بعد ان يكون الوفد قد قام بزيارة يتيمة لدمشق، بعد ساعات قليلة على الاحتفال المقرّر في ضيافة القوات الدولية «اليونيفيل» في الناقورة لتوقيع رسائل الضمانات والالتزام المتبادل بين لبنان واسرائيل برعاية اميركية وحضور موفدها إلى المفاوضات عاموس هوكشتاين.
وعليه، لم تخف مراجع ديبلوماسية وسياسية استغرابها للخطوة الرئاسية المفاجئة التي لم تستدرج أياً من المرجعيات اللبنانية المعنية إلى اي ردّ فعل حتى اليوم. وهو ما ترجمه الصمت المطبق لدى مختلف الأطراف التي كانت تتداول بملف الترسيم البحري مع اسرائيل. فالقيادات اللبنانية النيابية والسياسية والحزبية غارقة إلى أذنيها في كثير من الملفات المطروحة، وخصوصاً تلك المتصلة بالاستحقاق الرئاسي الذي تجاوز أمس محطة الجلسة الرابعة لانتخاب الرئيس العتيد، من دون ما يوحي بإمكان ان يُسجّل اي تقدّم على هذا المستوى، على وقع المساعي الجارية التي لم تتوقف في الكواليس السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة، على الرغم من مجموعة الشروط والشروط المضادة التي ما زالت تعوق كثيراً من السيناريوهات التي تقلّصت الى الحدود الدنيا، منذ اللقاء الثلاثي الذي جمع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل مع كل من المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم ومسؤول الأمن والارتباط في «حزب الله» وفيق صفا، الذي انتهى إلى اعلى الشروط التي اطلقها باسيل لإعاقة اي مسعى يمكن ان يؤدي إلى تشكيل الحكومة المنتظرة قبل نهاية العهد الاثنين المقبل.
وإلى هذه المؤشرات التي لا تعطي مهمّة الوفد الذي تقرّر ان يتوجّه غداً الاربعاء إلى سوريا، ما لم يطرأ أي تعديل من الجانب السوري، أي اهمية سوى إعطاء صورة عن نية العهد لتحقيق عنوان لا يعدو شعاراً لا يتجاوز مشروع العهد قبل نهايته بخمسة أيام، بما يمكن اختصاره بتسجيل السادس والعشرين من تشرين الاول موعداً «لإطلاق المفاوضات بين البلدين» لترسيم الحدود البحرية، ولو أنّه بقي يتيماً متى انتقلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة التي ستدير المرحلة المقبلة، وهي مرحلة تستحق النظر اليها بمنطق آخر يؤدي بالدرجة الاولى إلى وأد المبادرة في اتجاه سوريا في مهدها، وتقتصر مهمّة الوفد على الزيارة «اليتيمة» وما يمكن ان تحمله من «إعلان نيات» غير ملزم لأحد. فالرئيس نبيه بري الذي يبدي اهتماماً بملفات الترسيم، لم يعط الخطوة اي أهمية. فيما عبّرت مصادر رئيس الحكومة عن انّ مثل هذه القرار لا يعنيه، في ترجمة فعلية تقود إلى اعتبارها خطوة أحادية اتخذها رئيس الجمهورية وتنتهي مفاعيلها بمغادرته قصر بعبدا.
وإلى هذه المعطيات، فإنّه لا يمكن اليوم إلزام رئيس الجمهورية المقبل متى انتُخب، بأي خطوة من هذا النوع، تزامناً مع مجموعة من المخاوف التي يمكن ان تقود اليها الخطوة في الايام المقبلة. ففي الكواليس الديبلوماسية مقاربات أخرى للخطوة الرئاسية التي لا يمكن ان تُنتج أي مفاعيل، في ظل النزاع القائم حول الطاقة في المنطقة والعالم. فالإدارة الاميركية لا يمكن ان تسمح بالخطوات التي قد تقود اليها هذه الزيارة. والنظام السوري ما زال تحت العقوبات الدولية، ولا يمكن ان تلقى الخطوة اي رعاية دولية، وخصوصاً انّ في الطرف السوري من الحدود البحرية تعمل شركة روسية تتعرّض للعقوبات الاميركية والاوروبية الشاملة للقطاع النفطي الروسي، والتي لم تستثن اي شركة روسية منها، مع التذكير بأنّها هي التي أدّت الى انسحاب «نوفاتيك اينيرجي» من الكونسورتيوم الثلاثي الذي يقود عمليات الحفر والاستكشاف في البلوكات اللبنانية، وأنّ ما ينطبق عليها لا يمكن القبول به في سوريا ايضاً.