كثير من اللبنانيين، وخاصة السنّة منهم، لم يكونوا متقبلين لترشيح الجنرال عون لرئاسة الجمهورية، وكثيرون من هؤلاء الكثر، كانوا معارضين ورافضين إلى الحد الذي اعتبروا فيه ان الرئيس الحريري كان يغامر بوضعه الشعبي، ومن هؤلاء، الرئيس الحريري نفسه الذي لم يتورع في حينه عن المجاهرة بتحسّبه، وبعبوره إلى مرحلة المغامرة التي اعتبرت فيما بعد الخطوة الوطنية الشجاعة التي ستؤدي إلى لملمة الأوضاع الداخلية والحدودية والجوارية قبل أن تلحق بنا عدوى الفلتان الشامل.
وحصلت الإنتخابات الرئاسية وسط جملة من المفاجآت المباغتة، وكان أهمها، انتخاب الجنرال عون لمنصب رئيس الجمهورية، وبروز هذا الإنتخاب مكلّلا بخطاب القسم، فكانت المفاجأة الثانية، وتلاه لاحقاً خطاب عيد الإستقلال فكانت المفاجأة الثالثة، وواكب المفاجآت المذكورة بعض من التحول في تعامل الرئيس المنتخب مع الأحداث بما فيه توجهه إلى التصرف الهادىء والرصين وتخلّيه عن لغة المجابهة والمباطحة، فإذا بالأجواء توحي بأن الذي رست به المستجدات المباغتة في قصر بعبدا قد أكسب نفسه الصفات المطلوبة في رئيس كل لبنان.
وتلا ذلك، كلّ هذا التأييد الإقليمي والدولي، وكل تلك الزيارات الهامة التي أقبلت إلى لبنان موفدة من رؤساء دول عربية ودولية عديدة، أوحت للكثيرين بأن ما حصل من تطورات على الساحة الرئاسية اللبنانية، لم يكن فقط، عصارة توقعات محلية صرفة، بل قد جاء نتيجة لتوافقات مشغولة ما بين الداخل السياسي اللبناني، والخارج العربي والدولي، وبعضهم أكّد أن الخارج العربي والدولي قد جنح إلى المضيّ في تأييد مبادرة الرئيس الحريري بعد أن باغتته بحصولها وبجديتها وبفرضها لنفسها على الواقع اللبناني المهتز والمهدّد بشتى أنواع المخاطر، وفي طليعتها الأمنية والإقتصادية. هذا التطور الذي رافق عملية الترشيح والإنتخاب الرئاسي أضفى على البادرة مسحات من الجدّية والصوابية، أسهمت في انتشال لبنان من وضعية المغامرة والمخاطرة، وانقلبت الأوضاع في الأوساط السنية خاصة، من حال التململ والمعارضة، إلى حال من الإشادة بهذا الموقف الوطني الشجاع، الذي جنّب البلاد مخاطر الغرق في الكثير من المزالق والمطبات الخطرة.
جملة من النقزات والتحسبات واكبت هذه التطورات الرئاسية وتبدّت خاصة في موقف حزب الله الذي أوكل مفاوضاته ومواقفه العلنية للرئيس بري الذي سبق له أن صرح بأن مرحلة الجهاد الأكبر ستكون التالية لمرحلة الإنتخابات الرئاسية. وواقع الأمر أنه سبق هذه النقزة جملة من النقزات بدأت بتحفظ شديد من حزب الله تجاه التفاهم الخطي ما بين التيار العوني والقوات اللبنانية، المتناقض في الكثير من بنوده مع تفاهم الحزب- عون الذي أرسى جملة القواعد التي ارتكزت إليها السياسات المحلية والخارجية لحزب الله والتيار الوطني الحرّ.
وتبع ذلك جملة من المواقف والممارسات التي أحيت حالات التحسب والتنبه، وصولا إلى حالة النقزة الشديدة، بعد أن تم ترشيح الرئيس الحريري للجنرال عون، وحيث سريعا ما اتضح أن هذا الترشيح هو جدّي ومشغول، بينما ما كان سائدا من قناعة لدى الحزب أن الأنسب له ولسياسته ولعلاقاته الداخلية والخارجية، «الجنرال فراغ» الذي أطلق يديه وقدراته المختلفة بكل الإتجاهات فأطبق على سياسات البلد جملة وتفصيلا، وكاد أن يكون مرشحه الحقيقي الأول للرئاسة، عدد من الزعماء الموارنة القريبين إليه وفي طليعتهم الوزير فرنجية، وبالتالي لم يكن في حسبانه ولا في حساباته أن يكون ترشيح الجنرال جديا إلى هذا الحد الذي تجاوز فيه مرحلة التوقّع البعيد إلى مرحلة التحقق الأكيد، وملأت البلاد جملة من المآخذ التي أطلقها إعلام الحزب، بينها تصوير ما حصل بأنه ثنائية سنية – مسيحية أغفلت المكوّن الشيعي! ومنها أن هناك ثنائية نشأت قبلها، مسيحية – مسيحية تمثلت بالتفاهم العوني – القواتي. من هاتين الثنائيتين المتصورتين نشأت النقزة الكبرى واتهم الرئيس عون تلميحا وتصريحا بالخروج عن تفاهماته مع الحزب، وبدأ الجهاد الأكبر من خلال توكيل الرئيس بري بتمثيل الحزب في مواقف الثنائي الشيعي والتأسيس لمتاريسه المعرقلة المقبلة، وأُلهبت المعارضات الصغيرة والكبيرة في وجه تأليف الحكومة، وبالرغم من المساعي لإتمام التأليف على أكثر من صعيد، فقد بدأ الإستعداد لجهاد أكبر من الأكبر في مقبل الأيام والمراحل وأهم ما يدعو إلى شيء من التهدئة والعقلانية برزت فيه توقعات منتظرة من قبل الحزب بأن يعود الرئيس عون عن مواقفه المقلقة المتمثلة في خطاب القسم وملحقاته.
وما زال التلهي بوضعية توزيع الحقائب الوزارية قائما ومستمرا لإطلاق مزيد من العرقلة للمرحلة التالية وفي طليعتها الإعداد للإنتخابات النيابية المقبلة وتحديد القانون الذي سيتم اعتماده لإجرائها.
وكأنما لبنان، ما زال حتى الآن في مراحل تأزّماته الأساسية التي عانى منها خلال حكومة تصريف الأعمال والتي انتهت مهامها دون أن ينتهي وجودها، وما زال الحلم بخطف لبنان إلى خارج المنطقة قائما لدى البعض يتم السعي لاستكمال تحققه بعد الإنتقال به من مرحلة الفراغ إلى مرحلة التفريغ.