على الأرجح، إن كلام النائب السابق عن «حزب الله» نواف الموسوي الأخير حول القدرات العسكرية الجديدة للحزب، والصواريخ الدقيقة التي تُصنّع في مكان ما من لبنان لا خارجه وبوتيرة أسرع من السابق (قيل ولم أتأكد أنه تسجيل من مرحلة سابقة، لكنْ هناك مَن يقوله حالياً من دون تفَكُّر!) كلام موجّه إلى بعض الداخل اللبناني ولكنْ في هذا التوقيت «ع الفاضي»، وإلى الخارج الأميركي والإسرائيلي أيضاً «ع الفاضي»، و«في الطريق» إلى النظام الجديد في سوريا أيضاً وأيضاً «ع الفاضي». كلام بعدة مستويات، وكلها ببساطة، غير مقبولة اليوم.
ففي الداخل لا يثير كلامٌ كهذا إلّا نوعاً من الاستهجان والابتسام إذا كان المقصود به إخافة الناس، في بقية الطوائف، لا لأنهم أصلاً في «مكان» آخَر مناقض تماماً، ومقتنعون بموقفهم الرافض للحزب، وسلاحه الذي يبحثون عن نزعه بالقوة أو تسليمه باليد، ولن يتحقق ذلك في الحالين.. بل لأن الاندفاعة الدولية التي أنجبت رئيس جمهورية ورئيس حكومة وحكومة أقنعتهم بأن هذه المرة سيتغير الوضع وينسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب و«المقاوَمة» ممنوعة!
نعرف أن كل هذه السردية مجرّبة من قبل، وسخيفة كما كانت من قبل، لكنّ الظروف الحالية لحزب الله وللبيئة التي لا تزال حاضنة ووفية ومندَفعة دون تهوّر، وللواقع السياسي الجديد في البلد، تحتّم أخذَ نفَس لتَبيُّن نوايا إسرائيل وأميركا في الوقت الحاضر المستقطَع من حرب لا تزال قائمة بوسائل أخرى على غزة ولبنان.. وتفرض لغة أخرى في منطق المقاومة ذاتها… وإلّا لماذا قال ربك فاستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؟
المقاومة الآن ممنوعة فعلاً، سَواء كانت هي تمنع نفسها استدراكاً لما يمكن أن يُشعل حرباً جديدة لا من جانبِ أخرق واحد هو نتنياهو، بل من أخرقَين اثنين بإضافة ترامب إليه، ناهيك عن سبب طبيعي بعد الحروب هو نفض تراب التجربة الأخيرة المريرة، والاستعداد من جديد بوعي مطبّات المرحلة واستحضار طرق ناجعة منها استحضار السلاح النوعي كما قال الموسوي، ومنها كذلك الانحناء للعاصفة قبل قيامة جديدة في وقتها المناسب، ودائماً كان هناك وقت مناسِب، ثم .. وثمّ لتأمين الأموال اللازمة لبدء إعادة الإعمار بعد انكشاف الشروط المخزية التي تضعها الدول التي يقال إنها مانحة وهي لا تمنح ولا تسمح لأحد أن يمنح، وفي النهاية لإكمال خطة التنظيف الداخلية حزبياً ومناطقياً من آثار التجسّس الذي كان رهيباً ولا تزال وقائع جديدة منه تتبين عبر كشف شبكات، وأدى إلى فقدان السيطرة على بعض الأساسيات اللوجستية..
وأعود وأقول لولا ذلك الصمود الأسطوري قولاً وفعلاً للمجاهدين عند الحافة الأمامية، وتفضيلهم الشهادة بالعشرات وربما المئات على الانسحاب أو القبول بدخول العدو إلى الجنوب، لكنّا اليوم على الأرض يا حكَم وفوق رؤوسنا نتنياهو الذي لن يهدّد بنقاطٍ خمس فحسْب بل سيطبق من طرف واحد خريطة الشرق الأوسط الجديد بتدمير «الدنيا» إلى الليطاني. تلك الخريطة التي مُنِع بقوة المقاوَمة من تطبيقها عندنا، فأخذها وطبقها على أرض سوريا فور «وفاة» بشار الأسد الهادئة والناعمة وتحوُّل السّلْطة الجديدة فيها إلى.. مراقب للغزو الإسرائيلي ولكن بلا عدّاد!
إن موضوع الصواريخ الدقيقة التي يتحدث عنها الموسوي وتوقّعت بيئة المقاومة أن يتم استخدامها في عدوان أيلول ضد إسرائيل، تحديداً في اللحظات الحالكة التي لم يكن ليرضى مؤيدو المقاومة بأقل منها كردّ على الاستباحة الإسرائيلية الجوية الطاحنة، ولم تُستَخدم إلّا في حدود ضيّقة… تلك الصواريخ لم تَظهَر تحقيقاً لوعد الردع القاسي، ما قلَبَ الموقف لصالح إسرائيل. تلك الصواريخ النوعية صدّق الجمهور وجودها لأن السيّد الشهيد تحدث عنها وهدّد بها، وكلام السيّد عند مؤيديه لا يناقَش في مسألة الصدق الكامل. أما لماذا لم تكشف عن وجهها في الحرب كما وَعدَ السيّد، ولم تُضرَب بالكثافة المطلوبة، نحو تل أبيب وملحقاتها، فذلك لا بدّ أنّ وراءه سراً كبيراً وخطيراً.. أُعيد سرّاً كبيراً وخطيراً ربما لم يأتِ وقتُ الإحاطة به وإعلانه. لذلك نقول إن الوعدَ بتحضيرها وتجهيزها والعودة إليها، الآن، بات محفوفاً بقلّة ثقة (قد تكون ظالمة!) من أن المقاوَمة غير قادرة على ذلك، وإذا كانت قادرة فمَن يضمن أن السر الكبير والخطير، أُعيدُ السرّ الكبير والخطير الذي جمّدها لن يدخل مجدداً على الساح؟
أن جمهور المقاومة منقسم حالياً بين مَن يريد الرد على خروق إسرائيل التي لم يتعود أن يطيقها أو يقبل بها، لمنع إسرائيل عن التمادي بها، وهي تحاول كَيّ الوعي المقاوِم.. ومَن جَرحَت روحَه وجسده الحرب فيطلب بعض الصبر، ودموع الشيخ نعيم قاسم قبل أيام حين أجابَ عن بيئة المقاومة مؤشّر إلى ما تحمّلَت وتكلّفَت أرزاقاً وأرواحاً، فلا بأس في الاتكال على الدولة اللبنانية فترةً لتأخذ دورها في انسحاب إسرائيل وهذا دورها، رغم الاقتناع بأن إسرائيل لا تسمع بالقرارات الدولية إلا حين تتذرع بها لتنفيذها بخيمة دولية حتى لا يقال إنها نفذَتها بالقوة.
ثم ألا يشجع قولُ الموسوي عن إعادة التصنيع العاجلة، إسرائيلَ المتربصة، على التذرع (وهي لا تريد ذرائع!) بكلام مسؤولين حزبيين،لشنّ ضربات أو غارات جوية تدّعي أنها ضد مراكز حزبية وقواعد عسكرية؟
أما أميركا وإسرائيل فتدركان أن «صمت» المقاومة مرتبط مرحلياً بصمت إيران في انتظار ما سيقرّره قادتها بشأن المفاوضات النووية، وبالحركة الديبلوماسية الخفية القائمة وراء الكواليس بينها وبين أميركا، وما زال ترامب يوقف نتنياهو عن مهاجمتها ليس حباً بها وأنما خشية من أن تفلت الأوضاع عن السيطرة وتتأثّر إسرائيل جدياً وسلبياً بالصواريخ الإيرانية التي امتلأت صفحات صحف عالمية، وتقارير شرقية وغربية بالإشارة إلى وجودها وفاعليتها.
وأما إذا كان الكلام عن عودة التصنيع الصاروخي المحلّي، موجهاً إلى نظام سوريا الجديد، فالأفضل بدونه. ذلك أن «الجماعة» قد تكون في حاجة إلى اختراع عدوّ خارجي لتتوحّد الفصائل المتعارضة القواعد والأهداف التفصيلية، على مواجهته، ويتعيّن أن يكون حزب الله متنبّهاً. وما يجري على حدود الهرمل يصب في هذا الاتجاه. فبين ورطةِ التحالفات والانقسامات الجذرية في وجهات النظر، وغياب التنسيق الجدي على الأرض بين تلك الفصائل، ووسط انقطاع الرواتب الشهرية عن «الثوار» والمواطنين معاً، تغرق سوريا في محنتها. والأدهى تشديد قبضة تركيا على الشمال، وإسرائيل على الجنوب، ودول عربية على قصر الشرع مباشرةً.
الانتظار هو الموقف الصحّ مع ما فيه من خسارات بشرية وأرزاق إضافية. وعلى الذي يخطط لخوض حرب ألا يُخطِرَ أعداءه بذلك فيستعدّون، على الأقل قبل الاستفادة من أخطاء ما جرى، وإحدى نقاط الضعف كانت «ضياع» المهجّرين ما فوق المليون في مناطق ليست كلها «سمناً وعسّلاً» مع الشيعة. ومن بعد ذلك إعداد ما يُؤلم إسرائيل من قوّة يكون قيادُها بأيديكم، وبأيدي مخلِصيكم، فقد فقّعَنا التجسّس والخيانة هزمتنا.. لا أولئك الجنود السبعون ألفاً الذي أحبطهم أبطالنا ساعة اللقاء وجهاً لوجه، وقلَبوا موازين عقولهم والأوهام!
كان الشهيد السيّد حسَن مهندساً في خطاباته، وتهديداته وآرائه السياسية والعسكرية، وكان شعب إسرائيل يصدّقه أكثر مما يصدّق قادته في السياسة والميدان، وكان سماحته يزينُ بميزان الذهب ما ينبغي إعلانه وما يصح إبقاءه غامضاً محيّراً يبيح الاسئلة، وكنا نفهم مقاصده بحكم العادة على تحليل ما يقول وتطبيق ذلك على الأرض.
نحتاج وقتاً ربما طويلاً لنتعوّد شيئاً آخر. فاعذرونا!