IMLebanon

نواف سلام: إن لي نفساً توّاقة

 

تحدي إعادة السنّة إلى قلب السياسة

 

يحتل عمر بن عبد العزيز، ثامن خلفاء بني أمية، مكانة مرموقة في التراث الإسلامي، رغم قصر مدة حكمه البالغة سنتين و5 أشهر (717-719 م.). اشتهر بالزهد وإرساء العدل ونشر العلم. وهذه الصفات بالذات تسببت بموته مسموماً، حسب بعض المؤرخين، نتيجة تبرم الأمويين من التضييق عليهم. بيد أنه قبل خلافته، كانت له سيرة مغايرة، حيث وصف بأنه “أعظم بني أمية ترفّهاً وملكاً”، وكان مضرب مثل، ولا سيما حينما تولى الإمارة على “المدينة المنورة” لنحو 3 سنوات، في اللباس المُترف، والعطر الذي يعرف من خلاله من دون أن يُرى، ومشية متبخترة عرفت بـ “المشية العُمرية”.

 

هذا التناقض يشرحه بنفسه عبر مقولة نقلها بعض المؤرخين مع اختلاف بسيط في المحتوى: “إن لي نفساً تواقة، لم ترتق إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة”. هذه المقولة تنطبق على الرئيس المكلف تشكيل حكومة جديدة، القاضي نواف سلام، والذي يبلغ اليوم أرفع منزلة عند السنة، متسلحاً بمخزون علمي ومعرفي زاخر، وتجربة جامعية ودبلوماسية وقضائية ثرية. الأمر الذي يجعل منه نموذجاً متفرداً عن كل أسلافه في رئاسة الحكومة، وهو بالضبط ما يحتاجه السنة في الوقت الراهن، بعد سنين عجاف من القحط السياسي.

 

والحال إن وصول سلام إلى السراي الحكومي يشكل نقطة تحول في تاريخ رئاسة الحكومة، التي ما عرفت شخصية من هذه القماشة، منذ عام 2005 حتى يومنا هذا، إن لم يكن رئيساً فعضداً له، إلا الشهيد محمد شطح، الذي كان قامة فكرية بذهن متوقد، وشديد المراس في بحور الدبلوماسية والسياسة الدولية.

 

ومع أننا ظلمناه في ذكرى اغتياله، وحجتنا سرعة الأحداث والتحولات العصية على التصديق، إلا أنه بالتأكيد مرتاح في عليائه لأن الأمانة آلت لمن يستحقها، ومن خبره وكان جليسه مع مفكرين آخرين، شكلوا حلقة سعت لإخراج لبنان من براثن الوصايات بالعمل السياسي المتراكم، وبخلق ديناميكية دبلوماسية تعوض القصور السياسي الداخلي. لكن الواقع كان مغايراً، مع توسع نموذج رجال الأعمال في السراي الحكومي، وأكثر منه في التمثيل البرلماني، حيث اكتسى طابعاً أقرب إلى الوجاهة التي كانت معروفة في العصر العثماني.

 

لذلك، فإن أول التحديات الماثلة أمام الرئيس المكلف يكمن في كيفية استثمار وتوظيف مخزونه العلمي الوافر، وإخراج زاده في الكتابة السياسية من الحيز النظري إلى المجال التطبيقي، ولا سيما أنه يعد من علماء “الطائف”، الذي خبرنا فيه تطبيقات مبتسرة ومنقوصة، عبر تأويلات متناقضة حيكت لخدمة أهداف سياسية وفئوية وزعماتية.

 

يضع سلام عصارة تجربته مع “منظمة التحرير” في أوجها، وعمه الزعيم الوطني والبيروتي صائب سلام، والحريرية الوطنية، وميادين الدبلوماسية والقضاء الدولي، كي يعيد لرئاسة الحكومة ألقها عبر خطاب سياسي رصين، يعي تماماً حدود الصلاحيات والدور، وكيفية تظهير المواقف السياسية والاستراتيجية، وتوقيتها، والمصطلحات المستخدمة، بما يقطع مع حالة التسطيح التي شابت المرحلة السابقة.

 

ربما تكون ولاية الرئيس نواف سلام قصيرة في السراي الحكومي، بيد أن أهميتها تكمن في الإرث السياسي الذي سيتركه، الكفيل بإعادة السنة إلى قلب المعادلة الوطنية، بعدما تحولوا إلى كتلة اجتماعية واقتصادية راكدة، بلا بوصلة سياسية واضحة، تميل ذات اليمين وذات الشمال، وبأن يكون محور استقطاب في الانتخابات النيابية المقبلة، بين طبقة رجال الأعمال والوجهاء المناطقيين، وبين رجال ونساء وشباب متوثبين للعمل السياسي بفكر ونهج واضحين.

 

 

 

لذلك وقف نادي “رؤساء الحكومات” ضد تسميته، لأن في إرثه وثيقة نعي هذا النادي، غداة تجربة الرؤساء سعد الحريري وحسان دياب ونجيب ميقاتي الكارثية، وانخفاض سقف خطاب الرئيس فؤاد السنيورة بشكل ملحوظ، وانسحاب الرئيس تمام سلام بعد تجربة تحمل فيها من نزق العونية وصلف “حزب الله” ما لا يُطاق. لكن نجاحه في بلورة هذا الإرث يفرض تحدياً من نوع آخر، وهو إصراره على توزير شخصيات من نفس قماشته السياسية والفكرية والمعرفية، وخصوصاً عند السنة، كي يكونوا “عوناً” له لا عليه.