سبحان خالق الخلْق اللبنانيين ما أفضى بالهم وما «أذكاهم» حين يَسمعون جُملة كاملة وواضحة تماماً فيأخذون نصفَها الأول ويرمون نصفها الثاني. يريدون أن يُديروا أُذُن الجرّة إلى المكان الذي يعجبهم ويعبّر عن راحتهم متناسين رأي الجرّة نفسها!
فقد قال الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة نواف سلام في القصر الجمهوري «لا وزارة يحتكرها أحد، لكن لا وزارة ممنوعة عن أحد». هكذا ببساطة وشفافية، غير أن الإعلاميين الذين يتطلّعون إلى أن يأتي موّال التأليف على «طبطابهم» اقتطعوا النصف الأول الذي هو «لا وزارة يحتكره أحد» وطفَقوا يعبّرون عن انتصارهم بأن وزارة المالية لن تكون للشيعة استناداً إلى كلام سلام. أما النصف الآخر من الكلام الذي هو «لكن لا وزارة ممنوعة عن أحد» فقد أغفلوه وحيّدوه، مع أن معناه جَليّ بأن الشيعة ليسوا ممنوعين عن وزارة المالية.
المؤسف أن كل سياسي أو صحافي أو غاوي ظهور تلفزيوني يسمح لنفسه بتشكيلة حكومية تعبّر عن مشاعره ونواياه، ولا يترك للرئيس المكلّف المساحة اللازمة والاتصالات الضرورية والحرية المُلحّة للقيام بتشكيلته الوزارية المناسبة التي سيطلّ بها على اللبنانيين والعالَم العربي والمجتمع الدولي. فيسيّجونه بالعنعنات والشائعات والتخمينات التي أبعد ما تكون عن المنطق. وهذا الرجل وإن يكن في أول تجربة له في رئاسة الحكومة، عايش ودرس وتعلّم ولو من بعيد كيفية تشكيل الحكومات من قبل، وهو أدرى بأسلوبه الشخصي، في التعامل مع القوى السياسية التي يريد أن تشارك في حكومته من دون إقصاء أحد. وهو يدرك جيداً أن أغلب أهل الصحافة والتلفزيون والمحللين اللبنانيين مفطورون على ادّعاء المعرفة بالأسرار، وباستشعار الأمور قبل أن تحدُث، حتى لا نقول أن الكثير من تلك «الخبريات» التي يكتبها ويتغرغر بها الإعلاميون مدفوعةُ الأجر إما لتركيز الأنظار على شيء، أو لتحويل الأنظار عن شيء.
إن دوام كلام الرئيس المكلّف عن رفض الشائعات والأقاويل والتسميات التي تصدر عن مصدر هنا ومؤسسة هناك يعني أن الرجل خبير بأورشليم الخطط الإعلامية وكيفية خلْقِ وقائع لا هي صحيحة ولا مبنية على أصول وأحياناً غير واردة في ذهنه هو كَمُكلّف بالتشكيل، ومَن يدقّق في نظراته (الثعلبية – بالمعنى الإيجابي) خلال لقائه بالسياسيين وبالإعلاميين يشعر بأنه يريد أن ينبّههُم إلى كونه «يعرفهم» ولو لم يعرفهم، وأنه ليس من الأشخاص الذين تستطيع موجةٌ أو قوة دفع معيّنة أن تحمله إلى مكان لا يريده. في حين يأتي مراسلو وسائل الإعلام ومعهم أسئلة مديريهم في المحطة وما ينبغي أن يؤكّدوا عليه ويشيّعوهُ، أو يرموه في الإعلام ولو كان من التخريفات الخاصة بهم.
فما لدى الرئيس المكلّف من معطيات ووقائع واحتمالات وخريطة طريق، ليس لدى الآخرين الذين كل ما يعنيهم على ما يبدو «التنمّر» الاستباقي بأن نواف سلام مال إلى هذه الجهة، وأنه اقترب من جهة أخرى، وأنه يجافي جهة ثالثة، وهكذا.. فكأن الرجل رقاص الساعة وليس دكتوراً وقاضياً وأستاذاً جامعياً، وأن تشكيل حكومة لبنانية بعد الحرب الإسرائيلية الطاحنة على لبنان ومناطق الشيعة بالتحديد، وتداعياتها العمرانية والاجتماعية والسياسية غير جديرة بأن يتوقف سلام أمامها ويقيم التوازنات اللازمة لحفظ حكومته من الانزلاقات الخطرة التي قد تكون مقبلة علينا!
فاتركوا الرجل على مقدار همّته ووعيه الوطني يشكّل الحكومة التي لا تهتز مع كل نسمة هواء تهبّ عليها وهو مدرك تماما أن بعض السلوكيات النكدية والتحالفات الثابتة وعلى القطعة التي كانت أحيانا تكبّل الحكومات السابقة لا يجوز أن تتكرّر، بل لا يتطلّع أحَدٌ أو جهةٌ إلى استعادتها بعدما كان كل ذلك تعبيراً عن مرحلة رجراجة متقلّبة مملوءة بالتعطيل المبرمَج!
وحتى في اختيار الأسماء ستكون هناك نظرة جديدة، من كل القوى السياسية المشاركة، والرياح ذاهبة في اتجاه أسماء نظيفة ببُعد علمي وسيرة ذاتية متميّزة تحمل من صفات نواف سلام نفسه. وهذا يفيد الحكومة بإيقاعها المختلف بدأً من الصورة إلى العناوين إلى المشاريع، ويفيد تلك القوى التي أصبحت في حاجة إلى نفضِ صورتها وعناوينها ومشاريعها هي أيضاً.
أغلب الظن أننا أمام حكومة مختلفة، برجالها ونسائها. وحبذا لو تكون النساء حاضرة فيها أكثر من السابق، على رغم مَن يجزم بأن لا وزيرة في السابق استطاعت أن تعطي نموذجاً جديّاً في إدارة وزارتها حضوراً وتطويراً وفاعلية إلّا ما ندر.. راجياً أنا ألا تجيء هذه الملاحظة في غير صالحي من وزيرات الماضي القريب والبعيد فأسمع ردوداً انفعالية.
ولعلّ أسوأ ما في الأدبيات السياسية والإعلامية اليوم أنها تتعامل مع «الثنائي الشيعي» كما لو أنه سقط في الانتخابات النيابية معرّى من الاحتضان الشعبي، لا كالذي خرج محتَضَناً أكثر تجاه عدوان إسرائيلي خُرافي تتلخّص إنجازات المقاومة فيه: بمنعِ الجيش الإسرائيلي من التقدم واحتلال الأرض (سوى بعض الأراضي التي لا تتجاوز الواحد في المئة من أرض الجنوب) فصبّ نتنياهو وقادة أركانه المأزومين (يظهر ذلك جليّاً اليوم بالاستقالات وتبرئة الذات!) صبّوا جام غضبهم بالتدمير الشامل على كل مناطق الشيعة من ثلاثمئة طائرة حربية «سماوية» زرعت الدمار والدم على مساحة الشيعة وغيرهم، تعويضاً عن الفشل الأرضي الصادم.. وتجسيداً لصيت إسرائيل التي تعشق النيران والرماد. وقد بدأت مراكز البحث اليهودية تدرس النتائج الوخيمة لسبعين ألف جندي مدججين بأعتى الأدوات الحربية مقابل ألف مقاوِم شكّلوا بأجسادهم وأسلحتهم وأرواحهم الفدائية سدّاً مُحكَماً أمامهم، وخاضوا مواجهات طاحنة غير مسبوقة في الصراع العربي – الإسرائيلي. ولا يزال بعضهم شهداء تحت الأنقاض.
القاضي نواف سلام، من عينيه تقرأونه، فلا تصادروا رغبته وسعيه إلى تشكيلة حكومية ذكيّة ومتينة، ببعض «فهلويات» ليس وقتها الآن، إلّا إذا كنتم تُقدّسون قاعدة «شوفيني يا منيرة»!
وبعد التدقيق في عينَي الرجل، دقّقوا أيضاً في المكان الذي استقبل فيه وزير الخارجية السعودي: إنه المكتبة الخاصة ببيته، ورفوف الكتب تحيط الجالسين، من الجهات الأربع. لهذا دلالةٌ على أن القصور التي استُقبِل فيها بن فرحان ليست أهم من المكتبة. وأن نواف سلام صنَعَته الكتب. ومن صنَعتهُ الكتب يصنع تجربة سياسية من بصيرة.