بعدما انشغل الجميع بترشيحه رفضاً وقبولاً، خرج الرئيس سعد الحريري عن صمته بإعلان عدم ترشحه لرئاسة الحكومة شاكراً “كل من طرح اسمه”، ما حمل دلالة واضحة على مفاتحته بالترشيح والدخول في مشاورات انتهت الى الفشل. قد يكون اعلان الحريري طلب سحباسمه من التداول أراح الوضع من جهة، لكنه زرع بالمقابل لغم تسمية رئيس حكومة ليلزم الآخرين به باسم الشرعية السنية. في الجانب الايجابي لما قاله الحريري انه لم يترك الأمر معلقاً وحسم مسألة ترشيحه بقوله انه ليس مرشحاً لرئاسة الحكومة، وانه سيسمي “من نرى فيه الكفاءة والقدرة على التشكيل”.
فاجأ قراره الثنائي الشيعي كما “الوطني الحر” وزاد الأجواء تعقيداً. فالحريري المنسحب كان رفض تسمية أي مرشح آخر حتى داخل بيئته من أمثال ريا الحسن وآخرين. ما دفع البعض الى قراءة خلفيات القرار على أساس أنّ الفرنسيين تبنوا طرح نواف سلام المزكى ترشيحه داخلياً من “القوات اللبنانية” و”الإشتراكي”. لكنّ طرح سلام اذا حصل سيفتح البلد على معضلة سياسية دستورية وقد يحدث صداماً يجعل من الصعوبة بمكان تأليف حكومة في المدى المنظور. تبني ترشيح سلام يفسر أسباب الحملة على “حزب الله” وتحميله مسؤولية كارثة المرفأ، وكيف تم دفع حكومة حسان دياب الى الإستقالة في تكرار للأحداث، شبيه بما سبق وحصل مع حكومة الحريري في 17 تشرين وما أعقبها من مخطط تبني ترشيح سلام تصدى له “حزب الله”. والسؤال هو كيف سيتعاطى الثنائي الشيعي في حال تبني السنة ترشيح سلام؟
لم يثن قرار الحريري رئيس مجلس النواب نبيه بري عن الخروج عن صمته. أطفأ محركاته بانتظار ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ليقول كلمته الفصل، وتكون توضحت الامور على ضوء التشاور المرتقب بين رئيس الجمهورية ميشال عون والثنائي الشيعي. لكن بعض المقربين من بري إستبعدوا تغيير موقفه رغم انسحاب الحريري. عملياً رمى الحريري بيانه في وجه “البلوك المسيحي” الذي كان سيمثل اعاقة ميثاقية على ترشيحه. وخرج من دائرة مفرغة تقضي برفض باسيل لترشيحه ورفضه هو تبني ترشيح آخرين.
إستمر بري متمسكاً بترشيح الحريري وقطع الطريق على أي تسميات أخرى مستفزة. عوّل على الفرنسيين لإقناع المملكة السعودية بمباركة هذا الترشيح فجاءت النتائج سلبية، فصار الرهان على إقناع الاميركيين وهذه ايضاً لم تؤتِ ثمارها. غاب الفرنسي، وموقفه الذي كان واضحاً خلال زيارة ماكرون صار ضبابياً ما أربك العاملين على خط التكليف. ولوحظ ان بيان الحريري أمس أعقب زيارة المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم الى بيت الوسط، ليعني صدور البيان أنّ محاولات ابراهيم باءت بالفشل وهو حاول بتكليف من بري فتح كوة في جدار الأجواء السلبية. وكان الحريري إستقبل أمس الأول الوزير السابق علي حسن خليل ليبلغه عدم حماسته لتولي مهام الرئاسة الثالثة، كما زاره رئيس “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط موضحاً خلفيات رفض ترشيحه ليلتقي عليه و”القوات اللبنانية”.
تعرف “القوات” كما “الاشتراكي” ان المملكة جمدت من حساباتها دعم الحريري للوصول الى رئاسة الحكومة. وانتظرت موقفاً أكثر حدة بشأن المحكمة الدولية وهي التي اعتبرت ان القرار أدان “حزب الله” مباشرة طالما انه اتهم عضوا قيادياً فيه. والأصعب ان هناك من لفق تقريراً يتحدث عن إتفاق ضمني للحريري مع “حزب الله”. وزد على ذلك ان دار الفتوى التزمت التوصية السعودية ورؤساء الحكومات السابقين. كان من المقرر ان تستضيف الدار اجتماعهم الاخير ليخرج بموقف عنيف ازاء رئيس الجمهورية بسبب تأخير موعد الإستشارت النيابية، أرجئ بعد تسريبات اعلامية نقلت عن بعبدا بنية رئيس الجمهورية الدعوة الى هذه الإستشارات خلال أيام. نقل الرؤساء اجتماعهم الى بيت الوسط لكن منسوب التوتر في المواقف لم يتراجع نتيجة اعتراضهم على بدعة المشاورات قبل الإستشارات. يميل رؤساء الحكومات السابقون الى تبني ترشيح نواف سلام لرئاسة الحكومة وتظهير هذا الموقف على أنه موقف الطائفة السنية الرسمي. حاولوا إقناع الحريري الذي لم يبد حماسة للسير بهذا الخيار تجنباً للتصادم مع الثنائي الشيعي. هذا الثنائي الذي لن يرضى حكماً بترشيح سلام ولا يرى فيه أي حيثية سياسية او نيابية او حتى سنية. وإذا تم بالفعل تبني مثل هذا الترشيح سنياً معطوف عليه موافقة “القوات” و”الاشتراكي”، فإن رئيس الجمهورية حينذاك إما سيستمر في تأخير الدعوة الى الإستشارات أو يدعو الى إستشارات وتتمّ تسمية سلام ولا يشكل حكومة، او يشكل حكومة خالية من تمثيل المكون الشيعي، فيمتنع عون عن توقيع مرسوم تشكيلها لإفتقادها الى ميثاقية التمثيل.
وبناءً عليه، باشر الثنائي الشيعي اتصالاته مع عون ورئيس “الوطني الحر” للوقوف على حقيقة موقفهما من ترشيح سلام. وتجزم مصادر “التيار” انه لن يكون بوارد الدخول في تسميات طالما أن رئيس أكبر كتلة نيابية يقول إنه سيكون له مرشح. بالنسبة لـ”التيار” من الطبيعي أن ينتظر ما سيخرج به الحريري ليبني عليه واذا طرح اي اسم مفيد للبلد فسيسير معه حكماً، أما ترشيح سلام فمرفوض اذا لم يقبل به الثنائي الشيعي حكماً.
هو فصل جديد من المناورات، خصوصاً أن بري يرفض تبني ترشيح “حسان دياب آخر”، بالمقابل فإن المشاورات ستسلك مساراً مختلفاً بدءاً من اليوم على أمل الا يكون البلد امام تصادم جديد وما حدث في بلدة كفتون لا يزال ماثلاً في الأذهان.