اليوم يشارك في الصلاة عن نفس صديق عمره رمزي عيراني
هو- مثل الكثيرين- مقهور من الساسة المتلونين الذين يعتمدون فنّ «تأجيل القرارات حتى تصبح بلا جدوى». وحين دخل عالم السياسة، وهو المهندس، الرسام، والشاعر المليء بالمشاعر الحيّة أخذ قراراً أوّل: لن أدع السياسة تفسد إنسانيتي. نزيه متى، النائب عن المقعد الأرثوذكسي في عاليه، يجلس «تحت المجهر» بكل رحابة صدر ويتكلم من قلب القلب، بأسلوبٍ شفاف، بلا غشٍّ وممالقة معتمداً أسلوب: عليك بالصدق وإن قتلك. فمن هو نزيه متى، عضو كتلة الجمهورية القوية، وصديق الشهيد رمزي عيراني دائماً أبداً؟
إبن بحمدون الضيعة وعاشقها، ويسكن بينها وبين بيروت، الأشرفية، حيث التقيناه في منطقة السيوفي بالتحديد. «لا خدم ولا حشم» في المنزل. يستقبل من يقرع بابه بابتسامة و»بأهلا وسهلا» ويعدّ لضيوفه عصير الليمون الطازج بنفسه. لا يحتاج «سعادته» إلى بذل مجهود ليجعل الزائرين يشعرون وكأنهم في بيتهم. كل شيء في التفاصيل يوحي بأننا في بيت إنسان في غاية الشفافية. لوحاتٌ بأنامله في الدار وأورغ وخوذة درّاجة نارية. نائبنا الجديد يتنقل غالباً على دراجة نارية من نوع «بي أم- 800» موديل 2013. هو فكّر أن ينزل عليها إلى البرلمان لكنه من صنف الناس الذين لا يحبون المشاهد الإستعراضية. هذا ما قد يكتشفه بسرعة، وبسهولة، من يلتقيه أول مرة.
رمزي الصديق الأبدي
ديناميٌ جدّاً. لا يهدأ نزيه متى، ويتابع كل التفاصيل. فهل سينقل ديناميته هذه إلى المجلس النيابي؟ هل سيتوقف عن ممارسة مهنة الهندسة أربعة أعوام ويتفرّغ إلى «النيابة»؟ يجيب: «قطاع الهندسة المعمارية أوّل مجالٍ يتأثر بالأحداث والأزمات، وهذا ما بدأنا نشعر به قبل العام 2019، منذ العام 2014 بالتحديد، والمشاريع الكبيرة توقّفت تدريجياً، والآن أعمل على إكمال ما تبقّى من مشاريع بين يديّ كي أتفرّغ كلياً إلى العمل النيابي».
مثله مثل شباب وشابات كثيرين، من جيله، ممن عاشوا زمن الحرب اللبنانية المتمادية فصولاً وأشكالاً، وشهدوا على كلّ مراحلها ومحطاتها، وجد نفسه بين حياة وموت وبين وجود أو هجرة. إنتسب إلى خلية القوات اللبنانية في مدرسته في عاريا ثم في كلية الفنون الجميلة في فرن الشباك. تخرّج مهندساً معمارياً وشغل موقع رئيس مصلحة المهندسين في القوات اللبنانية. وانطلق في الميدان الحزبي والهندسي والحياتي شغوفاً بالإنجاز في كل مكان حلّ فيه. نصغي إليه وهو يتحدث عن نفسه بخفر. هو من محبي الأفعال لا الأقوال بالفعل لا بمجرد القول.
بيته مكتبه. وفي التفاصيل لا يغيب رسم رمزي عيراني واسمه. هو صديقه الأبدي. وهو من شارك، مع زوجة رمزي جيسي وولديّ صديقه ياسمينا وجاد وكل الرفاق، في إطلاق جائزة رمزي عيراني السنوية. وهي صدفة أن يكون اليوم بالذات، السبت 11 حزيران، القداس السنوي الذي يقام عن روح رمزي. نزيه متى هو من ابتكر الدرع التقديرية باسم رمزي عيراني وهو يجسّد شراعاً وأرزة القوات تُدفع الى الأمام، مثل الهواء الذي يدفع الأشياء لتتحرك قدماً. وثمة أرزة وشعار الهندسة وتفاصيل أراد أن يقول من خلالها إن رمزي مات جسداً أما روحه فستبقى حيّة دافعة الى الأمام دائماً. هو فنان. أصبح لدينا في البرلمان نائب مهندس فنان مرهف الإحساس وغير متلوّن ويأبى الظلم والظلامة.
هو حافظ التاريخ والأرقام. لم ولن ينسى يوم اختفى رمزي في وضح النهار في السابع من أيار «ولقيناه مقتولاً في سيارته في العشرين من أيار». كثيرون مثله لم ولن ينسوا. ثمة أحداث كثيرة مرّت والتحقيقات فيها توقفت من دون الإعلان عن الجاني أو الجناة. ثمة وجع لدى الكثيرين في دولة يعلو فيها كل شيء، أي شيء، على صوت العدالة.
من القاعدة إلى سدّة المسؤولية
ما الذي دفع بمهندسٍ ناجح، تمتدّ أعماله بين لبنان والخارج، إلى السياسة؟ يجيب «طبيعي أن تأخذ الأعمال التراكمية الإنسان إلى مجالات متنوعة، وأنا بطبعي أحب العمل الجماعي، وخصوصاً العمل من أجل قضية الإنسان. وتلاقت أمور عديدة لأكون مرشح القوات اللبنانية في عاليه، فأنا شخص حزبي ونجحت حيث عملت ومذهبي أرثوذكسي. وكنت أؤمن منذ البداية أن القوات هي الحزب شبه الوحيد الذي يوصل أشخاصاً من القاعدة إلى سدة المسؤولية. ويوم ربحت شعرت بالمسؤولية مضاعفة، المسؤولية تجاه الحزب الذي اختارني وتجاه الناخبين الذين أعطوني أصواتهم وانتخبوني. ويستطرد بالقول: أحب الأرقام كثيراً. ويوم فزت بأصوات9191 بحثت عن معنى هذا الرقم. ثمة أرقام كما الملاك الحارس. رقما 19 و91 يحكيان عن تحقيق المشاريع والإنتقال من مرحلة إلى أخرى. ويحملان في مضامينهما ثقة أكبر بالنفس. إنهما أشبه بالملاك الحارس. أعترف أنني شعرت بالتفاؤل بالرقم الذي حزته وأتمنى، من كل قلبي، أن أحقق من خلال كل صوت أخذته القوة والقدرة على تحقيق ما أراده أصحاب تلك الأصوات».
شارك نزيه متى بجلسة انتخاب رئيس المجلس النيابي. فما هو الأمر الذي فوجئ به في أولى الجلسات؟ هو لا يرغب كثيراً بالكلام عن «المفاجآت البشعة» وكل ما يريده هو أن يبث ذبذبات إيجابية لدى الناس. نعود لنكرر عليه السؤال نفسه فيقول: «نظرت حولي. نظرت في الوجوه. حدقت بالعيون. وقلت لنفسي: حرام أن يقوم أي «نائب» عن الشعب بألاعيب في حقّ من انتخبوه. حرام أن يستسهل أي نائب قرارات يأخذها ويدفع ثمنها الشعب». هو لا يرغب في الغوص كثيراً في الألاعيب ويُفضّل عوضاً من ذلك العمل. نتركه يحلم. نحاول أن نحلم معه بمجلس نيابي شفاف همّه هموم الناس. نحاول.
هو أصبح عضواً في لجنة البيئة. وعينه كانت على لجنة الأشغال. لا يهمّ «فعمل اللجان مهمّ لكن الأهم اليوم هو بقاء البلد موجوداً وأن يظلّ يشبهنا ويلبّي طموحات الأجيال المقبلة. هذا أملنا والإنسان لا يمكن أن يعيش بلا أمل».
ماذا عن طفولته ومراهقته؟ يجيب «ولدتُ في بحمدون الضيعة وكبرتُ فيها وعشقتها صيفاً وشتاء «فأحلى شتاء في بحمدون وأحلى صيف أيضاً فيها». ويوم تهجّرنا نزلنا إلى الأشرفية. نحن ثمانية أولاد، خمسة شباب وثلاث بنات. والدي توفي في العام 1979 ووالدتي في العام 2018. يغصّ قليلاً. يبلع ريقه. ويخبرنا عن أغنية كتب كلماتها بحروفٍ وصور لوالدته المتوفاة. نسمعها معه وفيها: «إمي يا إمي كلّك حنيي… إمي يا إمي يا كلّك حنيي… لما سحرك غاب مع شمس الغياب… تركتيلي بقلبي جراح… اشتقتلك يا إمي». نراه يصغي إلى ما كتب ذات يوم، في عيد الأم، بإحساس عال وكأنه انتهى من رسالته للتوّ. هو نائب عن الأمة يملك قلباً.
نزيه متى عازب. الحياة أخذته والتطورات المتلاحقة دفعته دائماً إلى التمهّل. ماذا عن المرأة في الصورة المرسومة بريشته في صدر الدار؟ يجيب «رسمتها العام 1989 وهي لوحة سريالية. صدقيني أحياناً أجهل لماذا رسمت شكلاً ما أو ملامح ما». ماذا عن الصورة الثانية الموجودة تحت الرسم السريالي؟ يجيب «رسمتها العام 1985، يوم كنت في الصف الأول الثانوي، نقلاً عن صورة للرسام الأميركي روبرت هوارد» ويستطرد «أقمت أول معرض لرسوماتي في العام 1985 في فندق الهوليداي بيتش. أعشق الرسم. وكنتُ أفكر أيام زمان أنني سأترك الهندسة في منتصف العمر وأهتم أكثر بالرسم والكتابة. ولاحقاً، صرتُ أرسم ما له أبعاد سياسية. لكن يبدو أن الحياة رسمت لي قدراً آخر وهو الإهتمام بشؤون الناس أكثر. هذا همي الأهم اليوم. أتمنى أن أرى الناس يبتسمون».
النائب في كتلة الجمهورية القوية نزيه متى نائب لا يشبه سواه. فهو الرسام والشاعر والمهندس والكاتب. هو من رسم عدداً من بطاقات المعايدة باسم قائد القوات اللبنانية في عيدي الميلاد ورأس السنة. وهو من رسم مي شدياق كاتباً بالخط العربي الذي لم يتعلمه لكنه برع فيه: «إنه قدر الأحرار». ورسم ملحم بركات كاتباً «ومشيت بطريقي» ورسم رفيق الحريري كاتباً «الأشرف من الذلّ هو الإستشهاد بخيار حكيم» ورسم وسام الحسن مضيفاً إلى الرسم كلمات «وسام الشرفاء في هذا الوطن» ورسم جبران تويني وبشير الجميل ويده تُمسك بيد والدته كاتباً: بخاطرك يا كبيرة هالبيت.
أحسن ما في نزيه متى أنه اختير من الناس وهمه اليوم النطق باسم هؤلاء. سيكون مدافعاً شرساً في إحقاق الحقّ إذا لم ينفع أسلوبه الهادئ في الدفع إليه. سيكون صوت الناس، كل الناس، في سبيل بلوغ الجمهورية القوية.
ماذا بعد؟ نودع «سعادته». نتركه يغادر على درّاجته النارية. نتركه يستعد للصلاة اليوم عن روح صديقه رمزي عيراني بعد عشرين عاماً على خطفه وقتله (2002- 2022) كاتباً له: رمزي عيراني 20 سنة إلك… و9191 صوتي التفضيلي إلك».