لا يبدي ابراهيم كنعان وملحم رياشي انزعاجهما من الزيارات المكوكية بين الرابية ومعراب للتفتيش بـ «الفتيلة والسراج» عما هو مشترك بين الورقتين اللتين تبادلاها، ليتمكنا من سكبه في وثيقة واحدة توضع على طاولة «رجليْهما» حين سيلتقيان.. وإنما يقومان بذلك و «على قلبهما مثل العسل».
لا بل هناك كثر غيرهما يتأففون انزعاجاً، ليس من المهمة التي أوكلت إليهما، وإنما غيرة وحسداً منهما، ورغبة في الحلول مكانيهما. لا يفرح كل القواتيين والعونيين لهذا الدور، وبعضهم كان يتمنى لو أن القرعة وقعت على رأسه ليكون نجم الشاشة المسيحية خلال هذه الفترة.. و «رسول» خلاص ناسها.
هؤلاء يستذكرون تجربة زياد عبس في حياكة ورقة التفاهم مع «حزب الله» حيث لا يزال اسمه حاضراً في أذهان العونيين، حتى لو كان الجنرال مشاركاً في كل نقطة وفاصلة من الورقة قبل خروجها إلى العلن. ولكن مجرد نجاح التجربة، ترك للقيادي الشاب مكانة في ذاكرة رفاقه لم تُمحَ بسهولة.
بشكل عام، يميل المزاج المسيحي إلى التصفيق لهذه المحاولة المنتظرة، والتي قد تذيب جبالاً من الجليد تكوّمت على مدى سنوات بين الفريقين وتركت بينهما أودية من التشنّج والعصبية المؤذية لهما، قبل غيرهما.. إلا أنّ الأوهام لا تأكل رؤوس الجمهور المتفرّج، فتراه لا يراهن على تحقيق اختراقات نوعية في هذا الملف المعقد والمتشابك بين ماضيه وحاضره ومستقلبه.
ومع ذلك، يمكن رصد بعض الآراء، داخل الفريقين، غير المتحمّسة لهذه المحاولة ولا تشجع عليها، لأسباب متعددة، ولعل أبرزها عدم اقتناعها بأن هذ الدرب قد يوصل إلى الطاحونة، لأنه مضيعة للوقت.
هكذا يمكن فهم بعض الأفكار السلبية التي ترمى داخل الوعاء العوني، تعليقاً على جولات الحوار المسائية التي تحصل بين كنعان ورياشي في حضرة الجنرال ميشال عون، وهي تفرز على الشكل الآتي:
– ثمة فريق، وهو يشكل أقلية نادرة لا تزال في صفوف «التيار الوطني الحر» ومناصريه، وتكن لـ «القوات» كراهية عمياء بفعل تراكمات الماضي البعيد والقريب، تربّت على الرفض المطلق لهذا الفريق. وهي ترفض راهناً أي «امتياز» قد يضع سمير جعجع في منزلة واحدة مع ميشال عون، وعلى طاولة واحدة. ولهذا يعلن هذا الفريق وعلى «راس السطح» رفضه لهذا الحوار ولأي نتائج قد يخرج بها.
– هناك من يقيس الأمور بنَفَس سلبي جداً يدفعه إلى القول صراحة إنّ «تجربة المجرّب يكون عقله مخرّب». وبالتالي إنّ تقديم ورقة مجانية لـ «القوات»، من خلال فتح الأبواب أمام «حكيم معراب»، هو ضرب من الفشل السياسي طالما أنّ النتائج معروفة سلفاً نظراً لارتباطات الرجل التحالفية التي تحول بينه وبين أي خطوة انفتاحية تجاه الآخرين، حتى لو كانت مصلحة المسيحيين، ومن بينهم ناسه، على المحك.
ولهذا، بنظرهم، فإنّ التقدّم خطوة إلى الأمام، سيترك صعوبة في العودة إلى الوراء، إلى حال الخصومة وما تفرضه من أدوات تعبوية منبرية.
– ثمة فئة متضررة على المستوى الشخصي من هذا الحوار، فتنظر إلى المسألة من منظار الحساسيات الضيقة داخل «التيار البرتقالي» التي تحرّضها على التصويب على حلقة المشاورات مع «القوات».. فقط لأنّ النائب المتني هو الجالس في صفّها العوني.
– هناك مَن يحاول أن يكون موضوعياً وبارد العقل في مقاربته متأففاً من التأخير في فتح هذه الصفحة وربطها فقط بالاستحقاق الرئاسي، أسوة بما حصل في الحوار بين «التيار الوطني الحر» و «تيار المستقبل» الذي اعترته شائبة أساسية وهي تهمة «الوصولية» التي لاحقته.
مع ذلك، يقول أحد القياديين في «التيار» إنّه ما من عوني عاقل يمكنه إطلاق النار على هذا الحوار، مهما كانت النتائج التي سيخرج بها متواضعة. وهذا الرأي يمثل الشريحة الأكبر من البرتقاليين، الذين لا يتوهّمون كثيراً من هذه الجلسات الماراتونية ولا يعتقدون أبداً أن جعجع سيرفع قبعته للجنرال ويسقط أوراقه تأييداً له في صندوقة الرئاسة، ولا يؤمنون بأنّ الآتي من معراب سيعرّي نفسه من خياراته الاستراتيجية ليلتحق بالقطار البرتقالي.. ولكن لا بدّ من الالتقاء ولو عند الحدود الدنيا.
يعتبر هؤلاء المتحمّسون أنّه من الضروري أن يحصل التوافق بين الرجلين لتحسين شروط التفاوض بأيدي المسيحيين، وصياغة سقف جديد للتنافس تحته لا يتجاوز المصلحة العامة المشتركة.. حتى لو كانت النتيجة محصورة ببعض التفاهمات البسيطة التي لا تتعدى الشؤون الحياتية اليومية، سواء في الوزارات أو في مجلس النواب. لا بدّ بنظرهم من التخلّص من لعبة «القط والفأر» التي استنفدت كل تكتيكاتها.
بتقدير هؤلاء أن الجمهور المسيحي قد ملّ من الخطاب التعبوي التحريضي، وحان زمن الحوار.. ولهذا فإنّ المهللين له يتفوّقون على كارهيه.