IMLebanon

التفاوض مع النظام السوري لا داعي له

قسمٌ من اللبنانيين يحارب، بمرجعية ايرانية، في سوريا إلى جانب قوات النظام السوري، وقسمٌ كبير من السوريين لاجىء في لبنان منذ بضع سنوات بسبب الحرب السورية. هذا وضع مزدوج ما كان بإمكانه أن يطبّق بحذافيرها نصيحة «حزب الله» للمقاتلين مع النظام وضده، بحصر القتال ومعه الإجتهاد في تفسير ماهية «الواجب الجهادي» ضمن الأراضي السوريّة، لكن الحريق المشتعل في العراق وسوريا اكتفى بقذف جمرات عارضة منه بإتجاه الداخل اللبناني، واستطاع البلد أن يحافظ على منسوب من الأمن والأمان من بين الأفضل في المنطقة في السنوات الماضية، بل أفضل من الفترة التي كان البلد عرضة فيها لحرب سرّية ارهابية عنوانها الأبرز الاغتيالات المتسلسلة ضدّ رموز حركة الإستقلال اللبناني الثاني، بالإضافة إلى التحدّي الذي مثّلته «فتح الإسلام» لأمنه واستقراره، ثم التحدّي الذي مثّله اللجوء إلى السلاح في الداخل لتبديل معادلات المشاركة في السلطة، هذا ناهيك عن الاستنزاف الذي تواصل لسنوات في عاصمة الشمال، بتوجيه مباشر من النظام السوري وأدواته الخالصة الولاء له.

رغم أن الوضع في لبنان يبقى «رحمة» قياساً بأوضاع سوريا والعراق، إلا أنّ مخاطر امتداد الاشتعال الاقليمي نحوه حاضرة في ثلاثة أبعاد.

واقعة تدخل «حزب الله» في الحرب السورية أولاً، ودم مئات من الشباب اللبناني الذي خسرناه في هذا الإطار. بعد أن سوّق الحزب لسنوات لمعزوفة أنّه ذاهب إلى سوريا لمنع تمدد الخطر التكفيري إلى لبنان، آل خطابه الى التوعد باستقدام ميليشيات أفغانية وعراقية وباكستانية ويمنية إلى لبنان، في آخر «طرفة» من طرائف تعريضه بمفهوم السيادة ومرجعية الدولة اللبنانية، ناهيك عن التوازنات بين الطوائف اللبنانية، التي يستذكرها الحزب ساعة يحب، ويطيح بها ساعة يشاء.

وواقعة تفاقم حجم ومساحة اللجوء السوري الواسع النطاق إلى لبنان. مع الاختلاف في النظرة إلى أسلوب التعامل اللبناني مع هذا الملف: من جهة، المجتمع الدولي «السياسي» الذي لا ينفك يثني على كرم وحسن استقبال اللبنانيين لأخوتهم السوريين، ما دام كل هم هذا المجتمع الدولي، وبالذات المجموعة الغربية، هو بقاء اللاجئين في لبنان بدلاً من محاولة انتقالهم باتجاه أوروبا. ومن جهة ثانية، كوكبة من المنظمات غير الحكومية التي تعمل في الإغاثة، ولا يمكن اختزالها كلها إلى نموذج واحد، لكن لا يمكن تغييب البعد النقدي عند النظر إلى تجربة العديد منها. ومن جهة ثالثة، الناشطون الحقوقيون والمدنيون، بين المتابع منهم بكفاءة وبشكل دؤوب التجاوزات الحادثة في هذا الإطار، وبالتالي يخدم عملهم قضية ربط معالجة ملفات اللجوء بمرجعية حقوق الإنسان، وبين الملهي منهم في تسطير استنابة معنوية لمجمل الشعب اللبناني بتهمة أنّه شعب «عنصري»، وما اتهام شعب بأكمله بالعنصرية الا الشكل الأمضى لمفهوم العنصرية.

والواقعة الثالثة تتمثل بخطر المجموعات الإرهابية. ليس هذا بخطر مختلق وان استخدمه الممانعون لتبرير القتال في سوريا الى جانب قوات النظام. ليس بخطر مختلق لكنه ازداد نسبياً بفعل استفحال الطابع المذهبي للتصادم بين الأكثر تطرفاً في كل مذهب على الأراضي السورية والعراقية، هذا مع تمكن ايران من «تأطير» التطرف الذي تستثمر فيه، في مقابل الطابع الانشطاري للتطرّف من الجانب المقابل، وصولاً الى الاحتراب بين المتطرفين أنفسهم، كما حدث غير مرة بين «داعش» و»النصرة»، على سبيل المثال لا الحصر. التحدي هنا هو كيفية عدم تمكين المتطرفين ليس فقط من استهداف المدنيين بل أيضاً من التترس بالمدنيين، سواء كانوا من المواطنين اللبنانيين أو من اللاجئين السوريين. ليس هناك وصفة جاهزة هنا، بل هو تحدّ ينبغي ان يخضع دائماً لمحك التجربة الميدانية من جهة، واطار من المعايير الواضحة التي تعيد الاعتبار لسيادة لبنان، والاختلاف الجذري بين سلاح الشرعية فيه وبين أي سلاح آخر، والتزام لبنان بالمواثيق الدولية. منع المجموعات الارهابية من التمدد باتجاه لبنان هو أولوية مركزية، مثلما ان منع هذه المجموعات من التترس باللبنانيين أو السوريين في لبنان هي المدخل الأساسي لاعتماد هذه الأولوية. لكن ذلك لا يمكنه ان يكون بمعزل عن انخراط لبنان بالمعركة العربية والدولية ضد الارهاب، مع الحرص على التمايز ضمنها وفقاً لتقدير تبعات الوضع اللبناني المركب لكن أيضاً بعدم اغفال مرجعية حقوق الانسان والتنبه دائماً ضدّ كل ما من شأنه أن يسيء إلى العلاقات بين الشعبين اللبناني والسوري، الشعب اللبناني في محنته التي تبقى صغيرة مقارنة بالمحنة العظمى للشعب السوري. وكل هذا يفترض ان يعني بشكل واضح انه لا انزلاق للبنان ككل الى وجهة النظر الايرانية ـ الأسدية في موضوع مكافحة الارهاب. وهنا بيت القصيد الآن.

معزوفة أنه ينبغي التفاوض مع النظام الأسدي لأجل أن يكون له دور في مكافحة الارهاب داخل لبنان، او في اعادة اللاجئين السوريين الى طاعته في سوريا، هي معزوفة لا يمكن التساهل معها أو تمريرها بأي شكل، لأنها تعطي لهذا النظام ما نجح اللبنانيون في عدم اعطائه له طيلة السنوات الماضية، رغم الاختلال في موازين القوى بين «حزب الله» والقوى اللبنانية الأخرى. هذا النظام المسؤول عن هذا التهجير الواسع للسوريين لا يمكنه بالنتيجة سوى مفاقمة الأوضاع سوءاً، وما التداعي للتفاوض معه سوى اسهام في مفاقمة الأوضاع سوءاً. المقياس هنا كلّما تعلّق الأمر بمكافحة الارهاب على الأرض اللبنانية: إما أنها مكافحة ارهاب تكون منصّة لاستعادة شيء اضافي من السيادة اللبنانية، وإما أنها خسارة للقليل الذي لا نزال نحتفظ به.