تصحيح التمثيل السياسي في المجالس النيابية اشكالية لا تقتصر على بلد واحد، لبنان. هي مطروحة تكاد تكون في كل البلدان التي تنتخب مجالس تشريعية، تلك التي رسخت فيها الديموقراطية وتلك السائرة على الدرب، أو المتعثرة. في كل بلدان العالم السائرة في الركب الديموقراطي، هناك تمثيل سياسي يعتبر مجحفاً بحق فئات مغيبة.
الفارق مع الحالة اللبنانية المستعصية طيلة السنوات الماضية، هو أن تصحيح التمثيل السياسي لا يكون بالامتناع عن إجراء انتخابات اذا لم يتم التوافق على قانون جديد. فالنافذ نافذ حتى ايجاد البديل. وصحة الانتخابات في ايقاعها الدوري، وعدم تأجيل موعدها. فاذا جرت «الخربطة» في المواعيد، لن يصلح «تصحيح التمثيل» ما أفسده عدم الالتزام بالايقاع الزمني الدستوري.
والفارق أنه في كل بلدان العالم المشغولة فيه تياراتها السياسية المختلفة بكيفية تصحيح التمثيل، لا يجري اختزال «الاجحاف» في التمثيل، وتغييب قطاعات بأسرها، في عنصر واحد. هناك سوء تمثيل للجماعات الدينية المختلفة. هناك سوء تمثيل للمرأة. هناك سوء تمثيل للأقليات القومية واللغوية. هناك سوء تمثيل للمناطق. هناك سوء تمثيل للأجيال المختلفة. هناك سوء تمثيل لأحزاب سياسية. هناك سوء تمثيل لقطاعات مهنية أو طبقات اجتماعية. لا يمكن بحجة تصحيح النظرة ورفع الاجحاف عن مجموعة معينة اساءة تمثيل مجموعة اخرى، ولا بحجة تحسين تمثيل الجماعات الطائفية زيادة سوء تمثيل المرأة أو الفئات الشابة. فقط في لبنان يعتبر حصر تحسين التمثيل بتحسين تمثيل الجماعات الطائفية «بديهياً» ومطلقاً، أي أنه لو صحح تمثيل الطوائف لما عادت حاجة الى تحسين تمثيل الفئات المهنية المختلفة، المناطق المختلفة، الاجيال المختلفة، وتحسين مشاركة المرأة.
هذان الاستثناءان اللبنانيان يصعبان أكثر من أي شيء آخر تصحيح التمثيل. كلما رفع شعار صحة التمثيل بهذا الشكل الاختزالي كلما صار تحقيقه مستعصياً، لأنه في نهاية المطاف يقتضي الشيء ونقيضه. رؤية عنصر من المشهد العام وتغييب عنصر آخر. وبدلاً من ربط صحة التمثيل بالمساواة القانونية بين المواطنين، ومساواتهم في الحقوق الانتخابية، يحصل العكس.
المكابرة على تصحيح التمثيل على الصعيد الطائفي سيئة أيضاً. لكن العدول عنها لا يكون بتوهم أن الطوائف هي جماعات ثابتة لا تتحرك. الطوائف ليست انشاءات وهمية. انها تركيبات معاشة، ولها خواص وجدانية مختلفة في ما بينها أيضاً، لكنها كيانات متحولة، متبدلة، وليست ثابتة ولا مقفلة. ولا يمكن أن يكون تصحيح تمثيل الطوائف بافتراضها مقفلة أو ثابتة، او بافتراض الاوزان فيها لا تتبدل من عام الى عام.
هذا كله من دون إغفال أن «التمثيل السياسي» ليس مقولة مطلقة. صحيح أن الناخبين يفترض بهم التوجه كل أربع سنوات (آخر مرة قبل ثماني سنوات) لانتخاب نوابهم. لكن احترام الموعد الدستوري هذا لا يجعل منه يوماً سحرياً، كما لو أن الناخبين ليس لهم رأي قبل هذا اليوم وبعده. الوكالة في السياسة لا يمكن أن تكون كالوكالة عند كاتب عدل أو في شؤون مالية. الوكالة في السياسة نسبية. والاساس في كل ما يطرح حول اشكالية التمثيل السياسي في البلدان الديموقراطية اليوم هو نزع هذه الهالة الاطلاقية عن الوكالة المعطاة من الناخبين للنواب، ومن المحكومين للحاكمين. اعتبار أن هذا النقاش لا يعنينا كلبنانيين هو مصيبة. لا يمكن التقدم في تصحيح الخلل بالتمثيل السياسي من دون تصحيح الخلل في مفهوم الوكالة المعطاة من الناخبين لمن ينوب عنهم في ممارسة السلطة التشريعية.
من هنا، لا يمكن أن يبقى الاخذ والرد حول قانون الانتخاب العتيد، واشكالية تصحيح التمثيل المستعصية، بين أقطاب التركيبة السياسية اللبنانية وبين الشعارات النمطية الى حد كبير لدى ناشطي المجتمع المدني. ما يحدث حالياً هو محاولة خلط ما يسعى اليه أقطاب السياسة اللبنانية مع الشعارات التي اعتاد الناشطون المدنيون اعتبارها اصلاحية تحديثية عصرية بحد ذاتها، وبمعزل عن سياقاتها.
ثمة شكوى من سوء تمثيل فئات طائفية بعينها. لا يمكن تمييع هذه الشكوى. في الوقت نفسه لا يمكن التعامل مع أي مطلب كان من أي فئة كانت كـ «حق مكتسب». لتحسين التمثيل، ينبغي الانطلاق دائماً من فكرة أنه، في ما تعدى حق المواطنين في الانتخاب والترشح، ليس هناك «حقوق مكتسبة» لأي مجموعة، بما فيها الطوائف. ما يمكن تحقيقه من حقوق يكون بالتفاوض، وأساساً ضمن المؤسسات. التفاوض اليوم يحصل والمأمول به خيراً، لكنه يتم كما لو كانت هناك «حقوق مكتسبة» للطوائف، أو كما لو كانت الامزجة الغالبة في كل طائفة ثابتة لا ترتفع أسهمها أو تهبط، ويتم كما لو أن هناك قوانين انتخابية «عصرية» وأخرى «متخلفة»، في حين أن أفضل قانون انتخاب لمجتمع بعينه يمكن أن يكون الاسوأ لمجتمع آخر.