للمرة الأولى منذ آذار الفائت، تظهر فرصة جديدة لإحداث خرق في جدار المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي. وإذا تحقق ذلك، فسيختلط كثير من الأوراق إقليمياً ودولياً، ومن الممكن أن يكون لبنان واحداً من الدول التي ستستفيد من فرصة التوافق، بعدما دفعَ غالياً ثمن المواجهة الشرسة.
في صَخب المدافع في أوكرانيا، تحرّك الأوروبيون لإحداث ثغرة في مكان آخر: فيينا. وفي الواقع، كان الاتفاق هناك، بين مجموعة الـ٤+١ وإيران على وشك الولادة مطلع السنة الجارية، لكن الحرب في أوكرانيا عَطّلته حتى إشعار آخر.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يخشى أن يقود التطبيع بين حليفه الإيراني وخصمه الأميركي، في هذه اللحظة الحرجة، إلى انتزاع أوراق قوية يستخدمها في المواجهة الأوكرانية مع الولايات المتحدة والغرب.
في اعتقاد موسكو أنّ واشنطن، مقابل عودتها الى اتفاق العام 2015 وإفراجها عن الأموال الإيرانية المحتجزة، قد تطلب من طهران تعديل سياستها في ملف الطاقة، وتحديداً النفط والغاز، بما يُعاكس مصالح روسيا ويُضعِف موقعها القوي كمصدر أساسي للغاز إلى أوروبا.
منطقياً، تبدو هواجس موسكو في محلها. فالأوروبيون يحتاجون بقوة إلى مصدر آخر للغاز، في ظل حربهم الدائرة مع روسيا. وعيونهم على الشرق الأوسط: من إيران إلى الخليج العربي فالثلاثي إسرائيل – مصر- الأردن.
ويتردّد في بعض الأوساط الديبلوماسية أنّ طهران قدّمت تطميناً كافياً إلى الحليف الروسي بأنها لن تستخدم طاقاتها من الغاز في خدمة الغرب، وأن هذا التطمين أدى إلى رفع «الفيتو» الروسي عن أي اتفاق مُحتمل في فيينا. لكن هذه المعلومات لم تتأكد.
أما المؤكد فهو أنّ الأوروبيين، من خلال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن جوزف بوريل، نجح في إحداث الخرق في طهران، بتغطية أميركية، وأنّ جولة مفاوضات ثنائية، أميركية – إيرانية، ستُعقد في دولة عربية خليجية خلال الأسبوع الجاري لتذليل العقبات العالقة، ما قد يفتح الباب لإنجاز على مستوى المفاوضين كافة في فيينا.
وأوحى بوريل أنّ قطر يمكن أن تكون الدولة المقصودة. فهي حافظت على علاقات طيبة مع طهران على رغم السخونة التي مَرّت بها علاقات إيران مع السعوديين والإماراتيين.
لكنّ قطر، في الوقت عينه، وَطّدت ارتباطها بواشنطن، ووعدتها في الربيع الفائت باستخدام مخزوناتها الهائلة من الغاز لتعويض أي نقص روسي تَتسبّب به الحرب في أوكرانيا.
الأوروبيون يستعجلون نجاح وساطتهم لإبرام اتفاق مع إيران في اللحظة التي يحتاجون فيها إلى مصدر جديد للطاقة، ويخفّف عنهم الارتهان للغاز الروسي. وكذلك، يستعجل الأميركيون إنجاز الصفقة مع إيران ليتمكنوا من زيادة الضغط على موسكو، ويقلّصوا التقارب الإيراني مع الصين. ويهمّ الرئيس جو بايدن أن يقدّم إنجازاً للرأي العام الأميركي على أبواب الانتخابات النصفية المنتظرة في تشرين الثاني المقبل.
وكذلك، يبدو الإيرانيون أنفسهم مستفيدين من إبرام اتفاق مع واشنطن، فيما الغرب المحشور بالحرب في أوكرانيا. لكنهم سيتشددون في مطالبهم: عودة الأميركيين الى اتفاق 2015 بلا شروط، فك الحصار عن الأموال الإيرانية المحجوزة في الغرب، رفع العقوبات عن الحرس الثوري ورفض الشروط الموضوعة على طهران، والمتعلقة بنفوذها كقوة إقليمية.
لذلك، هناك فرصة ممكنة لحصول اتفاق يريده أطراف النزاع. ولكن، ليس مضموناً أن تكون موسكو راضية عنه. وأما الطرف الأساسي الساعي إلى التعطيل فهو إسرائيل التي عبّرت علناً عن هواجسها من تعويم اتفاق 2015، من دون إلزام طهران بأي شروط او ضوابط. ولذلك هي ستمارس الضغوط على بايدن، الآتي إلى الشرق الأوسط، لمنع التوصّل إلى اتفاق.
والمصلحة الإسرائيلية في التعطيل لا تقتصر على مساحة النفوذ السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، بل تتجاوزها إلى النفوذ في مجال الطاقة أيضاً. فالإسرائيليون يجهّزون العدة ليكونوا بوابة الغاز الأساسية عبر المتوسط إلى أوروبا، ولا مصلحة لهم في استدراج المنافس الإيراني القوي إلى السوق.
من هذه الزاوية، يصبح حيوياً التفكير في موقع لبنان ودوره وسط دوائر النفوذ وخرائط الغاز. ويصبح مفهوماً ما يخطط له الإسرائيليون، وما تريده القوى الإقليمية والدولية الأخرى من المفاوضات الدائرة حالياً حول مخزونات الغاز في المتوسط، والتي تبدو المفاوضات الحدودية غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل أحد فصولها.
ومن خلال هذه الرؤية، يمكن إدراك الخلفيات الكامنة وراء التخبّط «الغامض» الذي يغرق فيه لبنان منذ سنوات، والذي يشكّل انعكاساً للمواجهات الإقليمية والدولية المعقدة.
فهل آن الأوان، أخيراً، لتحقيق خرق في الجدار المسدود؟ أم انّ هناك صدمة جديدة في الانتظار؟