التقاء المصالح النفطية والغازية للأطراف الثلاثة يُحدث الخرق بحثاً عن بيئة آمنة للشركات
ساترفيلد ينتظر أن يعود مجدداً إلى بيروت والمسألة الضبابية تتعلق برغبة حزب الله إيجاد حل للنزاع الحدودي؟
المناخات الإيجابية التي تُشاع حول ملف ترسيم الحدود البحرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، والتي تقوم الولايات المتحدة عبر موفدها دايفيد ساترفيلد بدور الوساطة فيها، تُحدث ارتياحاً لبنانياً رسمياً له أسبابه المتعددة، في مقدمها الاقتناع بأن «حزب الله» أعطى الضوء الأخضر لانطلاق مسار التفاوض لحل النزاع مع العدو الإسرائيلي.
النزاع البحري فيه الكثير من التفاصيل التقنية، لكن المسار بدأ بعدما رسمت إسرائيل بشكل أحادي حدودها البحرية مع لبنان وأبلغت في تموز 2011 الأمم المتحدة بخارطتها استناداً إلى عملية ترسيم الحدود التي حصلت بين لبنان وقبرص في 2007، لجهة النقطة التي اعتمدت كأساس للترسيم اللبناني – القبرصي، والتي اعتبرها الطرفان مؤقتة وقابلة للتعديل، وأوردتها إسرائيل في كتابها على أنها كذلك. ولاحقاً أصدر لبنان في تشرين الأول 2011 مرسوماً بإحداثيات حدوده البحرية من الجهات الثلاث شمالاً (لبنان وسوريا وقبرص) وجنوباً (لبنان وقبرص وإسرائيل)، وعليه تبين أن مساحة المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل تقدّر بـ860 كلم مربع. وباتت حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان والدول الواقعة على شرق البحر المتوسط على قدر كبير من الأهمية بفعل اكتشاف وجود ثروة طبيعية من الغاز والنفط، واتجاهها إلى استثمار هذه الثروة.
الدخول الأميركي على خط الوساطة لحل النزاع البحري بدأ مع عام 2012 مع الموفد فردريك هوف الذي تقدّم باقتراح يقوم على تقاسم المنطقة المتنازع عليها، يُعطي لبنان 500 كلم مربع وإسرائيل 360 كلم مربعاً. وهو الاقتراح الذي أُطلق عليه خط هوف والذي رفضه لبنان على الرغم من أن الخط كان أيضاً خطاً مؤقتاً وليس حدوداً نهائية. تجددت الوساطة في العام 2014 مع الموفد الأميركي آموس هوكشتين ومساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط دايفيد ساترفيلد ولكن من دون نتيجة، غير أن مسار الملف بدأ بالتحوّل عام 2019 إلى حدود إشاعة أجواء تفاؤلية نتاج زيارة وزير الخارجية مايك بومبيو إلى لبنان وجولات ساترفيلد المكوكية بين بيروت وتل ابيب.
والميل الأكبر في الأروقة اللبنانية أن فرص التوصل إلى إرساء أسس حل النزاع وتحقيق نتائج فعلية هي فرصة حقيقية وكبيرة نظراً إلى توافق مصالح الأطراف المعنية راهناً أكثر من أي وقت مضى.
إسرائيل من جهتها بدأت بالحفر في حقل «كاريش» وهذا الحقل القريب من الحدود اللبنانية قد يكون متداخلاً مع الحقول اللبنانية، ومن دون إيجاد حل للنزاع البحري، فإن عمليات استخراج النفط ستواجه خطر الاستهداف، ما يجعل الشركات المستثمرة مترددة وقلقة من توظيف أموال في هذا الحقل يمكن خسارتها. وهنا تكمن المصلحة الإسرائيلية في خفض سقف شروطها للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ولبنان من جهته، الذي ينتظر بدء عمليات التنقيب في البلوك «رقم 4» قبالة الجية الذي ستقوم به شركة توتال في الربع الأخير من العام الحالي والبلوك الحدودي «رقم 9» الذي يفترض أن تبدأ أعمال الحفر فيه بداية العام 2020، يعلم علم اليقين أن أولى الشروط التي يجب أن تتوفر للشركات المستثمرة هي وجود بيئة آمنة، وهذا يتطلب الانخراط في عملية تفاوض لضمان حالة مستقرة على الحدود تُشيع أجواء اطمئنان.
تقاطع المصلحتين اللبنانية والإسرائيلية من بوابة الحاجة إلى عوامل استقرار لاستخراج كل من البلدين ثروته النفطية أعطت دفعاً لتحقيق التقدّم الذي يجري الحديث عنه، والذي يوفر أيضاً للولايات المتحدة مصلحة من خلال إقدام شركات أميركية على الاستثمار في هذا القطاع من دون عوائق أو مخاوف من تهديدات مستقبلية.
وما طرحته الورقة اللبنانية المقدمة إلى الجانب الأميركي تضمنت سلسلة مطالب، في مقدمتها أن يكون التفاوض برعاية الأمم المتحدة وبوجود الوسيط الأميركي الذي يأمل لبنان أن يكون «وسيطاً نزيهاً». ما يُطالب به لبنان لا يخرج عن الصيغة المعتمدة في اللقاءات التي تجري في الناقورة بين الجانبين العسكريين اللبناني والإسرائيلي برعاية الأمم المتحدة، حيث يتولى قائد قوات اليونيفيل» دور المُحاور، بحيث أن النقاش والتفاوض لا يكون مباشراً بين الوفدين بل بصورة غير مباشرة عبر مخاطبة كل طرف المسؤول الأممي وإن كان الجانبان يجلسان على طاولة واحدة. وتشير المعلومات أن هذه الصيغة هي التي ستكون الصيغة المعتمدة، مع تعديل جوهري يتمثل بوجود الوسيط الأميركي، الأمر الذي يعني عملياً أن الدور المحوري والأساسي سيكون للأميركي، فيما المظلة والتقديمات اللوجستية ستكون للأمم المتحدة، على أن هذه العملية برمتها تتطلب تعديلاً من مجلس الأمن لتشمل ولاية القوة الدولية هذه المهمة المتعلقة بالحدود البحرية، ذلك أن القرار 1701 ينص على دور اليونيفيل حيال الخط الأزرق الذي يرسم الحدود البرية اللبنانية – الإسرائيلية. ولا تشمل ولايته بحراً سوى القيام بمهام المراقبة والتفتيش.
كما أن الورقة اللبنانية تتضمن بنداً أساسياً قائماً على تلازم حل مسألتي الحدود البحرية والبرية واعتماد نقطة انطلاق الحدود ذاتها نقطة انطلاق للحدود البحرية، وهو ما بات يُعرف بالنقطة «بي1» في رأس الناقورة التي توجد بها علامة حدودية لبنانية مثبتة منذ «اتفاق الهدنة». وهذا الربط مهم، إذ أن الحدود البرية في منطقة الناقورة تنسحب على الحدود البحرية وتشكل امتداداً لها، وهذا يطال البلوك «رقم 9» في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية جنوباً. والحدود البرية هنا تشمل النقاط المتنازع عليها منذ رسم الخط الأزرق من دون أي تطرّق إلى مسألة مزارع شبعا التي لها وضعها الخاص كونها ترتبط بالقرار الدولي الـ242، وكونها قانونياً تقع تحت السيادة السورية.
ما رشح من معلومات يُشير إلى أن ثمة قبولاً جرى بمبدأ التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة. في أغلب الظن أن الحركة المكوكية لساترفيليد الذي ينتظر عودته مجدداً إلى بيروت تهدف إلى تأمين أكبر قدر ممكن من نقاط الاتفاق لحل النزاع قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات لضمان تحقيق النجاح في هذا الملف.
على أن المسألة التي يشوبها الكثير من الضبابية تكمن في ما إذا كان المناخات الإيجابية حول ترسيم الحدود البحرية واحتمال بدء عملية التفاوض قريباً تحمل في طيّاتها حقيقة رغبة فعلية لدى «حزب الله» في إيجاد حل نهائي للنزاع الحدودي مع إسرائيل إيذاناً بانطلاق استثمار الثروة النفطية التي يحتاجها لبنان الغارق في الديون والعجز والركود الاقتصادي والمحاصر على مختلف المستويات، أم أن المسألة برمتها محاولة كسب وقت وتقطيع لمرحلة التحوّلات في المنطقة في انتظار تبلور الاتجاهات التي سترسو عليها في نهاية المواجهة الإيرانية – الأميركية، يستفيد منها لجهة تبريد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية كي يتفرّغ إلى ساحات أخرى ستكون هي ساحات المواجهة مع الأميركي وحلفائه العرب!.