مهما بلغت البراعة الديبلوماسية لوزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، في جولته الإيرانية، فلا شيء يضمن نجاحه.
مهمّته صعبة، لأنه كـ«جامع الماء والنار». لا يصل إلى نتيجة من دون أن يحرق يديه، أو يأخذ «دوشاً» حقيقياً. مهمة لودريان صعبة من الأساس، لأنّه لا يريد أن يبدو «موفداً» للرئيس الأميركي دونالد ترامب، يبلّغ رسالة تهديد ويمشي، وفي الوقت نفسه، لا يجب أن يكون «محامياً». أكثر ما سيحصل عليه كلمة «شكراً والسلام».
الرئيس الفرنسي ماكرون، قلق من تهديدات الرئيس الأميركي ترامب، خصوصاً بعدما وضع الأخير «خطاً أحمر» تبدأ مفاعيله في 12 أيار القادم: «على إيران القبول بإصلاح «الثغرات الخطيرة» في الاتفاق النووي». في قلب هذه الثغرات السلاح الصاروخي الباليستي الإيراني. واشنطن مستعدة لإسقاط الاتفاق النووي مع إيران، حتى ولو بقيت الدول الأوروبية على التزامها.
طهران لا تقبل مجرّد البحث، فكيف بالتفاوض على سلاحها الصاروخي. تدرك طهران أنّ هذا الأمر مجرّد خطوة للذهاب نحو الأبعد ورفع سقف المطالب الأميركية. واشنطن – ترامب التي لم تُصغ استراتيجية حقيقية قابلة للتنفيذ في الشرق الأوسط بعد «كارثة» الرئيس السابق باراك أوباما، تبدو وكأنها وجدت «الثغرة» التي يمكن من خلالها النفاذ إلى الأساس وهو وقف التمدد الإيراني بعد تحالفها مع روسيا – بوتين. طهران تقول إنها مستعدّة للحوار ولكن ليس للتفاوض، لأنّ سلاحها الصاروخي الذي مهما قيل إنّه «يخالف قرارات مجلس الأمن لأنه يتجاوز حاجتها الدفاعية»، خارج التفاوض لأنه جزء من «أمنها القومي».
رغم أنّ التحاور مع الوزير الفرنسي، كان مكثفاً، منذ لحظة وصوله إلى طهران، فإنّ ذلك لم يحل دون توجيه إنذارات إليه اعتاد المفاوض الإيراني تداولها انطلاقاً من طبيعته التفاوضية تحت الضغط أو على حافة الهاوية. لا شك أنّ النظام الإيراني، وعلى أعلى المستويات هو الذي وجّه عشرات الطلبة إلى المطار ليستقبلوا الوزير لودريان بهتافات ويافطات تؤكد على أنّ «إيران ليست ليبيا» وأنّ «فرنسا تتكسب من المفاوضات النووية»، بمعنى أنّ فرنسا تقايض موقفها بصفقات تجارية مع طهران، وكأنّ إيران لا تُطالب «بالتعويض» عن أي تنازل أمام واشنطن، بصفقة اقتصادية في بندها الأول السماح لها بفتح «حسابات دولارية»، حتى يمكنها عقد صفقات ضخمة تُنشّط اقتصادها المتراجع.
الرئيس ترامب، الذي كان «رجل أعمال» ناجحاً، لا يتراجع عن استخدام براعته في هذا المجال، طالما أنّه فشل حتى الآن في إظهار أي براعة سياسية. يريد ترامب من طهران العمل على حلّ «الخطر الأقرب» وهو في سوريا، فإذا ما رفضت ذلك لجأ إلى العمل على زيادة تكلفة التدخل الإيراني في سوريا، كما استثمر تظهير خطر البرنامج الصاروخي الإيراني واستخداماته في اليمن ضد المملكة العربية السعودية. فإذا نجح في ذلك يكون قد اصطاد عدّة «عصافير» بسلاح واحد. فهو ينزع بذلك عامل قوة من إيران، ويضعف التدخل الروسي في المنطقة عبر سوريا ومع إيران، ويرضي الدولة العربية المُناهضة للتمدد الإيراني.
تملك واشنطن العديد من الأوراق لمواجهة الموقف الإيراني. لكنّها تبدو محشورة بالموقف الأوروبي الرافض أو على الأقل المتردّد، والتشدّد الروسي المسنود بطموح دور صيني وليد. لذا رفعت واشنطن «العصا» الإسرائيلية بوجه الجميع. خلال الأيام القليلة القادمة ستجري قوات أميركية مع قوات إسرائيلية مناورة واسعة هدفها «رفع الجاهزية في مواجهة التهديدات الصاروخية الإيرانية».
لن تتحوّل هذه المناورة حرباً واسعة وشاملة.. لا واشنطن تريد الحرب ولا إسرائيل رغم كل تهديداتها ستفجّر حرباً مفتوحة على المجهول.
الواضح حتى الآن أنّ واشنطن تسعى وتعمل على رفع تكلفة التدخل الإيراني في المنطقة، وبذلك تكرّر ما حصل مع الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. ورغم إمكانية التشابه إلا أنّ الفارق كبير. في أفغانستان جاءت القوات السوفياتية من آلاف الكيلومترات البعيدة إلى أرض غريبة لا تربطها بها أي روابط، في حين أنّ إيران تلعب في ما تعتبره «حدائق» خلفية لها.
أفضل ما حصل في كل هذه التطورات، زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى مصر في توقيت أكثر من ممتاز. الردّ الفعلي والواقعي سواء على التمدّد الإيراني أو العجز الأميركي – الأوروبي، هو في قيام جبهة عربية تجمع السعودية ومصر بالتكافل والتضامن مع دول عربية أخرى حان الوقت لتدرك أنّ السياسة الإيرانية في المحيط العربي، تُلحق الخسائر بالجميع وليس بطرف واحد. حتى حلفاء إيران يدفعون وهي تستثمر.
الأخطر أنّ هذه السياسة شرّعت أبواب المنطقة أمام الروسي والتركي والأميركي لذلك كلما تأخّر الرد ارتفعت الكلفة والخسائر وتضاءلت إمكانية ردّ هذا وكأنّه القضاء والقدر.
إيران مهما ربحت فإنها في النهاية خاسرة لأنّها لم تعد الأقوى. أصبحت قوة بين قوى كبيرة وكبرى، وجميعها يطمع بحصة أكبر لا بدّ أن تُقتطع مما تطمح إليه إيران.