Site icon IMLebanon

أسئلة حول “الطهارة” في مفاوضة إسرائيل

 

تَصرّف الوفد اللبناني بأقصى درجات الحذر في جلسة المفاوضات الأولى، وفي الشكل قبل المضمون. «الفرسان الأربعة، كانت «قلوبهم على أيديهم» وعيونهم مفتوحة «عَشرة عَشرة»، خوفاً من خطأ في الشكل غير مقصود. فذات مرّة، وقعت ملكة جمال لبنان «ضحية» صورة. ولذلك، حتى الصورة المشتركة مع الإسرائيليين أصَرّ الوفد اللبناني على عدم نشرها، ولو «كُرمى لعيون» ديفيد شينكر، فبقيت في الكمبيوتر للتوثيق… وللتاريخ. وطبعاً، الكلام المباشر ممنوع أيضاً. وهكذا، عاد العميد الركن بسام ياسين إلى القصر مرتاح البال، وطمأن الرئيس، القائد الأعلى للجيش: «نُفِّذ الأمر سِيدْنا»! فعمّ الفرح أرجاء القصر وانشرحت الجمهورية.

إنه «يكبِّر القلب»، هذا الحرص من جانب الفريق اللبناني على «طهارة» المفاوضات «التقنية». فإسرائيل ستحاول تدريجاً أن تنزلق بالمفاوضات نحو الأعمق: الحدود البرية والاقتصاد والنقاش السياسي. هي تعرف أنّ لبنان يعيش أسوأ ظروف انهياره الاقتصادي والمالي، وأنه في حاجة ماسّة إلى إنجاح المفاوضات والبدء في استثمار بعض من مخزون طاقته الغازية والنفطية في البلوك 9، بعد صدمةٍ في البلوك 4.

 

فوق ذلك، جاء انفجار مرفأ بيروت في توقيت خطِر. فهو عطّل – جزئياً على الأقل – بوابة العبور اللبنانية الممتازة بين أوروبا والشرق العربي. كما دمَّر رُبع العاصمة ومنشآتها ومؤسساتها ومرافقها الحيوية وبُناها التحتية. وإضافة إلى الخسائر المريعة في الأرواح، وقعت خسائر مادية بنحو 11 مليار دولار.

 

ولبنان الذي بدأ يغزوه الجوع الحقيقي هو اليوم أعجَز بكثير من القدرة على إعادة بناء المرفأ، وأعجز عن القدرة على إعمار رُبع العاصمة. وهو مُقبل على انهيارات أخرى في الأسابيع القليلة المقبلة. ولا مساعدات يُنتظر وصولها من أي جهة مانحة، ولا مجال لاستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لأنّ طاقم السلطة ما زال يناور ويتهرَّب من الإصلاح.

 

اللافت أنّ هذا المناخ يوليه الإسرائيليون اهتماماً بارزاً. فبعد انفجار 4 آب، نُشِرت تقارير في وسائل إعلام إسرائيلية تحدثت عن الفرصة المتاحة أمام إسرائيل للاستفادة من تلاشي لبنان، سواء مالياً واقتصادياً أو بتدمير أجزاء من المرفأ والعاصمة.

 

العديد من الخبراء الإسرائيليين رأوا أنّ الظرف مناسب جداً لجَلب لبنان إلى طاولة المفاوضات، فهو يفتقد أوراق القوة التي يمكن أن تسمح له بالرفض، أما إسرائيل فهي أكثر ارتياحاً حتى ممّا كانت عليه في مفاوضات 17 أيار 1983.

 

يجدر السؤال: ماذا يريد الإسرائيليون اليوم من لبنان؟

 

بمعزل عن مسألة ترسيم الحدود البحرية، لم يقُل الإسرائيليون ما يريدونه حتى اليوم. هم يكتفون بتأكيد أنهم لا يطمعون بالأرض اللبنانية أو بموارد لبنان الطبيعية. لا بالغاز والنفط في البحر، ولا بالمياه في البرّ. ولكن، بالتأكيد، لبنان يشكّل المنافس الطبيعي الأول لإسرائيل في الشرق الأوسط الذي تخطط له.

 

الإسرائيليون يطمحون إلى أن يكونوا هم حلقة الوصل بين أوروبا والشرق العربي، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وهذا هو الدور الذي كان يحتكره لبنان عبر تاريخه، بسبب ميزاته الجغرافية والتاريخية والتنوّع الديني والثقافي والاجتماعي.

 

ولذلك، كانت «فجّة» الدعوات التي ظهرت في الإعلام الإسرائيلي إلى أن تقوم إسرائيل باستغلال الوقت الطويل الذي سيستغرقه لبنان في إعادة إعمار مرفأ بيروت، بسبب الانهيار المالي، لتكريس موقع مرفأ حيفا على المتوسط، فيكون حلقة الوصل بين أوروبا والخليج العربي الذي تتسارَع معه عمليات التطبيع.

 

وفعلاً، الشهران الفائتان شهدا انطلاق أوسع تعاون بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة في مجالات مختلفة. وهذ التعاون يأخذ في الاعتبار دور مرفأ حيفا باعتباره بوابة للتبادل. وقد تمّ توقيع اتفاقات عدة في هذا الشأن. والهدف هو تنشيط خط حيفا- إيلات- الخليج العربي، على حساب خط بيروت- سوريا- الأردن أو العراق- الخليج العربي.

 

طبعاً، فوق ذلك، هناك رؤية إسرائيل السياسية للبنان، ضمن رؤيتها الكبرى إلى مستقبل الصراع الإقليمي: السلام، التطبيع، دور إيران، دور تركيا، التوطين، وواقع الكيانات السياسية في الشرق الأوسط وحدودها.

 

إذاً، التحدّي الحقيقي الذي سيصطدم به المفاوض اللبناني في الناقورة لا يكمن فقط في الصمود لترسيم الحدود البحرية وحفظ حق لبنان، بل أيضاً مواجهة الرغبة الإسرائيلية في استغلال التلاشي اللبناني لفرض اتفاق «القوي على الضعيف».

 

في عبارة أخرى، إنّ الضغوط التي سيتعرض لها المفاوض اللبناني في الناقورة مسؤول عنها الطاقم السياسي اللبناني الذي يتشدّق بعضٌ منه بشعارات «الطهارة».

هذا الطاقم يتلهّى بشكليات «آداب الجلوس والكلام» على طاولة الناقورة، فيما يتغاضى عن الواقع المرير جداً في المضمون. وفي ذكرى عام على انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول، هناك مَن يسأل: ألم يكن الطاقم يعرف أنه بفساده يقود البلد إلى الانهيار، وأن هذا الانهيار هو الذي يسمح لإسرائيل وسواها بالسعي إلى فرض الخيارات عليه؟

 

ويستطرد: بالتأكيد، كان يعرف ذلك. إذاً، لماذا لم يلتقط فرَص الإصلاح الكثيرة التي أتيحت له، سواء بانتفاضة الداخل أو بضغوط الجهات العربية والدولية المانحة؟

 

والأخطر، إذاً: هل هذا الطاقم (كله أو بعضه) يمارس «الفساد من أجل الفساد»، أم انّ فساده (كله أو بعضه) مقصود لإضعاف لبنان وتسهيل فرض الإملاءات عليه؟

 

تُرى، ما الذي يخدم إسرائيل أكثر: صورة لطاولة المفاوضات وشكليات من هذا النوع، أم إفقاد لبنان عناصر صموده بنهب الدولة وإسقاط مؤسساتها وتهجير أهلها وتجويعهم وإذلالهم والاستزلام للخارج؟

 

عودة إلى مقولة كمال جنبلاط: «إنّ الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء». «في نفوسهم».

 

ليس متوقعاً أن تكون للطاقم الحاكم جرأة الإجابة عن الأسئلة الحقيقية. والأرجح أنه ومحاسيبه سيلجأون إلى «إضاعة الشنكاش» والمزايدات حتى النهاية… نهاية البلد والجميع.