لا يمر أسبوع من دون أن تتوسع لائحة «القضايا الخلافية»، وهو ما رفع نسبة التحديات التي تواجهها الحكومة للإقلاع من مكان ما. فإلى الغموض في ملف ترسيم الحدود البحرية جمدت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في غياب خطة التعافي المالي، فيما ينتظر البنك الدولي خطة الطاقة ليموّلها. وعليه، فإن تمّ ربط جديد عملية الترسيم بـ»الاسرار الدفاعية» هل ينسحب ذلك على بقية الملفات؟
لا تبدو هذه المعادلة بعيدة عن الواقع ومنطق الأمور، ففي الوقت الذي دخلت البلاد مدار الانتخابات النيابية يصعب على المراقبين تعداد الملفات والقضايا الخلافية العالقة على المستويات السياسية والادارية والمالية والقضائية والتربوية والصحية والحياتية وما يتصل بالطاقة الكهربائية. فهي تفوق بكثير تعداد الملفات التي سلكت الى نهاياتها الايجابية، وإن كانت الحكومة قد نجحت في تجاوز التداعيات الفورية للبعض منها، فقد اقفلت أخرى على زغل والخوف ما زال قائما على إمكان تجدد كثير منها في أوقات ليست ببعيدة.
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل حجم الجهود المبذولة لمواجهة التحديات التي وضعتها الحكومة على لائحة اولوياتها، وإن الإجراءات المعتمدة حتى اليوم لم تخرج بعد من إطار مجموعة التقارير التي توصّلت إليها اللجان الوزارية التي تعثرت في مواجهة عدد كبير من هواجس اللبنانيين التي مَسّت مختلف وجوه حياتهم اليومية. ولذلك بَدت حركة الوفود الدولية والاممية في لبنان عاجزة عن تقديم التصوّر النهائي لما يمكن ان تقوم به لاحقا. حتى ان البعض منها أحدثَ لنفسه مهمة لم تكن من اختصاصه يوما. وهي تعمل على تقريب وجهات النظر بين المسؤولين اللبنانيين فيما اكتفت اخرى بمراقبتها بعدما حددت لنفسها مهلاً للبت بالاستراتيجية التي ستعتمدها في المرحلة المقبلة.
وعليه، توقفت مراجع ديبلوماسية وسياسية مراقبة أمام خريطة الاستحقاقات التي تواجه البعثات الدولية والأممية الموجودة في بيروت وسط كثير من الهواجس التي تهدد مهمتها ما لم تغيّر الحكومة واللجان الوزارية المكلفة مهمات محددة ومعها المعنيون في بعض المؤسسات المتعثرة من استراتيجيتها المعتمدة في بعض القضايا. وان دخلت هذه المراجع في تفاصيل البعض منها يمكن التوقّف بداية أمام ما انتهت إليه مهمة بعثة البنك الدولي الموجودة في لبنان برئاسة المدير الاقليمي لمنطقة الشرق الأوسط ساروج كومار من تعثّر توصّلاً الى الانتهاء من وضع الصيغة النهائية لـ»خطة التعافي المالي» ومعالجة «أزمة الطاقة الكهربائية» بالإضافة الى طريقة تطوير الاصلاحات الهيكلية المتصلة بمشاريع التنمية، والبيئة والتغيير المناخي. من دون إغفال التنسيق القائم على مستوى عال مع صندوق النقد الدولي.
فالمعلومات المتداولة بين أوساط البعثة تَشي بأنّ رئيسها الذي بات يتقن التعاطي مع عقول اللبنانيين تحوّلَ وسيطاً بين الاطراف المختلفة التي لم تتفق بعد على ما يؤدي الى وضع بعض المشاريع في الصيغ النهائية تمهيداً للمباشرة بالمعالجات الناجحة التي ستؤدي الى وضعها على سكة الحل مع الاستعداد لتقديم الدعم المادي من الهيئات الدولية بعد الدعم اللوجستي والتقني والإداري بما يضمن القدرة على مواجهة ترددات هذه الأزمات وضمان قدرة الدولة ومؤسساتها على الإيفاء بالديون المترتبة عليها لاحقا قياساً على حجم القروض الميسرة المَمنوحة ان استثمرت بالطريقة الفضلى.
وعليه، لم تخف المراجع المعنية قلقها من فشل بعثة البنك الدولي مثلاً من توفير التوافق المطلوب بين أعضاء اللجنة الوزارية تجاه خطة الطاقة التي وضعها وزير الطاقة وليد فياض واعتبرتها بعثته انها هي الفضلى، ما لم يكن لدى رئيس الحكومة مثلا او مجموعة الوزراء أي مقترحات تتلاقى مع بنود هذه الخطة في اكثر من نقطة اساسية. ولذلك، فإن الخشية تكبر ان ثبتَ في لحظة من اللحظات ما يجري التداول به في الكواليس من وجود مشاريع بديلة قبل تغيير أولوياتها أو إسقاطها.
وبالاضافة الى هذه الملاحظات الدقيقة، التي تدور المناقشات حولها، ثمة مشكلة أخرى تتصل بمسار التوصل الى «خطة التعافي المالي» التي طال انتظارها لدى الجانب الدولي المتمثّل ليس بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي فحسب، إنما على مستوى الدول والمؤسسات والجهات المانحة. وكل ذلك يجري في وقت ثَبت سقوط الورقة الأولى التي تسربت منها قبل فترة وما تقترحه على مستوى توزيع الخسائر بطريقة غير عادلة وغير متوازنة بين الاطراف الاربعة الاساسية المعنية بها وهي: الدولة اللبنانية، مصرف لبنان، المصارف والمودعين.
والى هذه العقد، تبقى هناك مخاوف جدية من المخاطر المقدرة من تريث شركة «الفاريز ومارسال» في المباشرة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان بعدما استهلكت السنة الاولى من التعديلات التي شَكت منها في قانوني «النقد والتسليف» و»السرية المصرفية» ودخلت في الأشهر الاولى من المهلة الجديدة للتجميد. وهي ما زالت تدقق في «الداتا» التي وصلتها من مصرف لبنان وأودعت في مكاتبها المحدثة في وزارة المال في انتظار صدور تقييمها النهائي المطلوب بداية الأسبوع المقبل. وذلك بهدف التثبّت من انّ ما تسلّمته من هذه «الداتا» يتوافق مع لائحة المعلومات التي طلبتها وكافية للانطلاق في مهمتها.
وبالإضافة الى هذه المعطيات التي زرعت كثيراً من الشكوك والهواجس لدى المراقبين وممثلي البعثات الاجنبية في لبنان، فإنّ هذه القراءة لا تتجاهل رصدها لحجم تراجع الاهتمام بملف ترسيم الحدود البحرية على مستوى المسؤولين اللبنانيين. وتزامناً مع الصمت الذي رافق مسلسل الروايات الاخيرة التي تحدثت عن مقايضات سياسية وديبلوماسية ربطت بين المخارج المطروحة للترسيم وبرامج العقوبات المفروضة على بعض المسؤولين اللبنانيين، فإنّ اي مسؤول لم يردّ او يوضِح تأكيداً او تكذيباً حتى هذه اللحظة لِما أشار اليه البعض على هامش الزيارة الاخيرة لرئيس الوفد الاميركي عاموس هوكشتاين الى بيروت، خصوصا تلك التي كشفها سلفه السيد ديفيد شينكر.
وبناء على ما تقدم، لا تخفي المراجع الديبلوماسية التعبير عن جملة مخاوفها ممّا يجري على اكثر من مستوى. وان قبل البعض بالتفسير الذي أعطته المديرية العامة لرئاسة الجمهورية باستحالة تقديم اي معلومات عن مسار التفاوض حول ترسيم حدود لبنان البحرية الجنوبية وما انتهت إليه مبرّرة رفضها مطالب من تمنّى عليها ذلك، بأنه التزاماً منها بمقتضيات «أسرار الدفاع الوطني التي يمنع القانون الافصاح عنها راهنًا» و»لحفظ الامن القومي لئلّا ينفذ العدو اليها ويستخدمها لتقوية موقفه في وجه لبنان»، فإنّ ذلك يؤدي حتماً الى اسئلة أخرى، منها: هل يمكن ان تنسحب هذه «السرية المعتمدة» على كل ما يُعيق الكشف عن حقائق تتصِل بملف الطاقة او خطة التعافي وملحقاتها، أم انّ هناك ما لا يوجب الكشف عنه من اليوم؟!.