عند الحديث عن المواجهة المحتملة بين إسرائيل و»حزب الله»، بمعزل عن الوجود العسكري على الحدود الجنوبية، لا بدّ من العودة الى ما نُقل عن الوسيط الألماني غيرهارد كونراد، الذي دبّر عملية تبادل الأسرى والجثث والجثامين بينهما عام 2008. فهو الذي قال يومها: «إنّ أمن إسرائيل لا يضمنه إلّا هؤلاء الأقوياء». وهو رأي يوحي بكثير ممّا يمكن إحياؤه اليوم. وعليه فما الذي يقود الى هذه الخلاصة؟
يستحضر ديبلوماسي عتيق، واكب الحروب المتنقلة على الحدود الجنوبية بين لبنان وفلسطين المحتلة من بيروت والأمم المتحدة، كثيراً من الوقائع الملتبسة بين اسرائيل ولبنان وجيرانها العرب.
ويتوقف عند محطات أساسية من المواجهات على الحدود الجنوبية. فيشير الى أشكال الحروب المختلفة التي خاضها الجيش الإسرائيلي مع قوى الأمر الواقع في شكلها وتوقيتها ونتائجها، قبل تجربته المريرة مع الجيش اللبناني عقب حرب تموز، وتحديداً منذ أن أعاد انتشاره على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، بمؤازرة القوات الدولية المعززة (اليونيفيل) تنفيذاً للقرار 1701 الصادر في 12 آب 2006.
قبل هذه المحطة التي ولّدتها حرب تموز وغيّرت من قواعد الإشتباك في الجنوب اللبناني، وفق ما قال به هذا القرار، ينبغي على اسرائيل أن تحتسب الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش اللبناني على طول الخط الأزرق، عدا عن الغطاء الأممي الذي وفّرته القوات الدولية.
وما زاد في اقتناع الحكومة الإسرائيلية بضرورة احترام الآليات الجديدة التي أُقرّت، أنّ عليها، وأيّاً كانت الظروف المحيطة بأيّ حادث غير عادي، أن تتحاشى الصدام مع الجيش اللبناني.
ففي القوانين الدولية والمعاهدات التي تعترف بها معظم الدول، تُحتسب أيّ مواجهة بين جيشين نظاميين، مختلفة تماماً عمّا يجري بين أيّ جيش – ولو كان عدواً – وأيّ ميليشيا مسلحة. وهو ما شهدت عليه التجربة الإسرائيلية القاسية التي عاشتها مع الجيش اللبناني، على الأقل في تجربتي «شجرة العديسة» (3 آب 2010) والكلفة الباهظة التي تكبّدتها.
كذلك مع بداية بناء «الجدار الإسمنتي» على طول الخط الأزرق مطلع السنة الجارية، وهو ما جعلها أسيرة قواعد الإشتباك الدولية الجديدة التي كرّسها القرار1701 وملحقاته، والذي اكتفى الى الآن بما يمكن تسميته «وقف العمليات العسكرية» على الحدود بين البلدين ولم يرقَ بعد الى «وقف النار الشامل».
وبمعزل عن هذه الحقائق التي يتحدث عنها القانون الدولي، ترغب اسرائيل في كل مرّة بتجاهل الموقف اللبناني الرسمي عبر تشويهه في شكله ومضمونه وتغيير مفهومه المبني على احترام سلطة الدولة اللبنانية ودور الجيش والقوات الدولية العاملة في الجنوب. فهي لا توفّر مناسبة أو حدثاً ما، للإيحاء للعالم بأنّها لا تخوض مواجهة معهما كقوتين وطنية ودولية، بل إنّها تخوض حرباً مع «حزب الله» على أساس أنّه «منظمة إرهابية»، كما تصفه اكثر من دولة عربية وغربية، وعلى أساس أنّه يصادر دورهما الشرعي المحلي والدولي.
وفي ردّه على هذه المحاولات الإسرائيلية، يُحمّل الديبلوماسي العتيق «حزب الله» المسؤولية، إن نجحت إسرائيل في تصوير ما يجري على هذه القاعدة. فتأتي مواقفه المبنية للتعبير عن القوة المفرطة التي بات يمتلكها الحزب سبباً في أيّ حرب مقبلة، وتحديداً بعد دوره الكبير في الحرب السورية، ومن خلال تأكيد ارتباطه المادي والعسكري والسياسي بالقيادة الإيرانية، وهو ما سمح في اعتباره رأس حربة وفصيلاً كبيراً وأساسياً ضمن تركيبة الحرس الثوري الإيراني في المنطقة ولبنان.
عند هذه المعادلة، التي اكتسبت طابعها الإقليمي بعد حربي اليمن وسوريا وأحداث العراق، يبدو الجانب الإسرائيلي مصرّاً على تأكيد المواجهة في الشمال الإسرائيلي مع «حزب الله» وليس مع الدولة اللبنانية وجيشها الشرعي، وهو ما يمنحه هامشاً واسعاً من الحركة في تعاطيه مع الخارج، وما حصده تأييداً دولياً لعملية «درع الشمال»، فتلقى مواقف الدعم من واشنطن وعدد من دول العالم، التي تجاهلت دور الدولة اللبنانية وحكومتها على رغم من أنّها أعقبت تهديداتها من مخاطر «أنفاق حزب الله» بتحذير الحكومة اللبنانية من أيّ دور يشكّل نصرةً للحزب في أيّ عمل عسكري هجومي في اتجاه اسرائيل.
عند هذه القراءة الجديدة للأحداث الجنوبية وما رافق اكتشاف الأنفاق المزعومة، تبدو الصورة واضحة لجهة أنّ ما هو متوقع مواجهة إسرائيلية ـ إيرانية أكثر ممّا هي لبنانية.
وهو أمر يتيح لإسرائيل القيام بأيّ عمل عسكري بمعزل عن قدرتها ومصلحتها في تحديد التوقيت المناسب له وشكله، وما يمكن أن تقوم به والذريعة التي يمكن أن تختارها شرارة للقيام بأيّ اعتداء جديد على لبنان.
على هذه الخلفيات يقرأ الديبلوماسي جديد الأحداث، فلا يرى مصلحة لإسرائيل في القيام بأيّ عمل عسكري الآن. فجبهتها الداخلية غير متماسكة، وحكومتها تعاني انشقاقاً لم يصل بعد الى حدّ انهيارها.
ولذلك يعتقد أنّه يمكنها أن تُمعن في تهديداتها من دون القيام بأيّ خطوة عسكرية ميدانية، وهو ما تعهّدت به يوم الجمعة الماضي أمام اللجنة اللبنانية – الإسرائيلية، التي اجتمعت في الناقورة برعاية قيادة القوات الدولية وضيافتها.
لكن وعلى رغم هذه التطمينات والضمانات، التي اكّدتها القوات الدولية رسمياً، فإنّ الإصبع الإسرائيلي على الزناد، في وقت لا يبدو انّ «حزب الله» مستعدّ لأيّ مواجهة حالياً، فهو يكتفي بالتهديدات مصحوبة بالإدّعاءات بتوافر القدرات الهائلة لتغيير مجرى أيّ حرب يمكن ان تُخاطر بها اسرائيل، في ظل ما يقوم به من مهمات في سوريا ومناطق أخرى تستنزف قدراته البشرية قبل العسكرية.
وعليه ينتهي الديبلوماسي الى تأكيد اقتناع، تدعمه معلومات دقيقة تستبعد إمكان إنزلاق أيّ طرف الى أيّ مواجهة عسكرية حالياً. وهو ما تدعمه تقارير ديبلوماسية غربية تتحدث عن ستاتيكو، تحدث عنه الوسيط الألماني عقب عملية التبادل الكبيرة في تموز 2008 بين إسرائيل و«حزب الله» من دون علم الدولة اللبنانية، ولا يمكن العبث به على رغم انّها استخدمت مرافقها ومنشآتها.
اما وقد صحّت نظرية الوسيط الألماني، وتُرجمت أمناً غير مسبوق في الشمال الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ. فالجليل الأعلى، كما يسمّونه، ينعم بهدوء منذ العام 2006 الى الآن، وهو وضع لم تشهده المنطقة منذ عقود لا في ظلّ «اتّفاق القاهرة» وما أنتجه لسنوات أيام «فتح لاند»، ولا في أيّ وقت آخر.
وهو ما يؤدي حتماً الى اعتبار ما يحصل مجرّد «ضوضاء» إعلامية تستوعب الأصوات الخافتة والهادئة على أن تبقى قرقعة السلاح قائمة الى أمد غير محدّد من دون أن يُستخدم مدفع أو صاروخ طالما لم تتوافر الذريعة – الخطيئة التي لن يرتكبها أحد. ولكن الى متى؟!