لن تكون الجولة الثانية من طاولة الحوار الوطني احسن حالاً من الاولى في النتائج المتوخاة. الا انها لن تنذر بانهياره. وقد تكون هذه الخلاصة اقرب الى خيط يربط به الرئيس نبيه بري المؤسسات الدستورية المعطلة
تعود طاولة الحوار الوطني في ساحة النجمة في جولة ثانية غداً، تبدأ حيث انتهت الاولى ــــ وقد تكون هذه حال اكثر من جولة تالية ــــ في البند الاول من جدول الاعمال، وهو انتخابات رئاسة الجمهورية. غداة الجولة الاولى، قال مدير طاولة الحوار الرئيس نبيه بري ان مناقشة بند الاستحقاق ستستغرق اكثر من جلسة. الا انه توقع كذلك ان لا يصل رؤساء الكتل النيابية بالضرورة الى تفاهم وشيك عليه.
على ان استمرار الحوار بات هدفاً في ذاته، على نحو مماثل للحوار السنّي ــــ الشيعي بين تيّار المستقبل وحزب الله. مجرد التئام كل منهما، بجدول اعمال محدد لا يزال يقتصر على الملفات الامنية، كاف وانجاز.
وقد يكون تواصل انعقاد طاولة الحوار، جولة بعد اخرى، افضل توقعات رئيس مجلس النواب وأكثرها تفاؤلاً، لاسباب شتى منها:
1ــــ استبق انعقاد الجولة الاولى اعتقاد بأنها ستكون يتيمة وأخيرة، اذ تكرّس سلفاً الانقسام الحاد على انتخابات الرئاسة بين مَن يطالب بالذهاب فوراً اليها، ومَن يقترح قلب الاولويات رأساً على عقب كأن تسبق الانتخابات النيابية انتخاب الرئيس. كلا القائلين بوجهتي النظر هاتين أفرطوا في الحديث عنهما على منابرهم، دونما احراز اي تقدم احدهما حيال الآخر. ولن يكون الموضوع نفسه على طاولة الحوار احسن شأناً. في حصيلة الانطباعات التي خرج بها رئيس المجلس من الجولة الاولى انها لم تثبت استمرار هذا الانقسام فحسب، بل جعلت اولوية الحوار تتقدم ما عداها. لا احد قادراً على فرض وجهة نظره في الاستحقاق او شروطه من اطلاق عملي مجلسي الوزراء والنواب على الآخر. لكن احداً ليس في وارد تحمّل وزر تعطيل الحوار على نحو ما يفعل في مجلسي الوزراء والنواب.
2ــــ ليس الجالسون الى طاولة ساحة النجمة هم القادرون، من تلقائهم، على بت مصير الاستحقاق بعدما عجزوا عنه، ولا يزالون، على ابواب انقضاء 16 شهراً على الشغور الرئاسي. ومع انه يرغب في اعادة الاعتبار الى ما يسميه «لبننة» انتخاب الرئيس، الا ان بري يعرف ايضاً ان اللبننة يقتضي ان تمر اولاً بفرن تسوية سعودية ــــ ايرانية، تتيح إخراج لبنان من رزمة المآزق التي تتخبط فيها دول المنطقة. لم تتوخّ الاتصالات التي اجراها بعيداً من الاضواء مع سفراء دول كبرى تبدي اهتمامها بالاستحقاق الرئاسي، وكشف عنها متأخراً، سوى ان تكون مؤشراً الى تلازم تحضير الداخل لما قد يفضي اليه الخارج عندما يصبح اكثر استعداداً للبحث في المشكلة اللبنانية.
بل لا يخفي قريبون من رئيس المجلس اعتقادهم بأن ثلاث او اربع جولات من الحوار تسبق الزيارة المحتملة للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لبيروت، نهاية هذا الشهر، تشكل عاملاً مطمئناً ومكمّلاً بالتزامن مع الجهود التي يبذلها في هذا السياق.
3ــــ ترمي طاولة الحوار الى اعادة الاعتبار ايضاً الى اولوية انتخاب الرئيس بعدما اضحى في الاشهر الاخيرة منسياً تماماً تقريباً. وعلى اهمية البنود الاخرى التي ادرجها في جدول الاعمال ــــ ولا يقل بعضها كقانون الانتخاب شقاء عن الاستحقاق الرئاسي ــــ الا ان رئيس المجلس يعرف ان من الصعب احراز تقدم جوهري في مسار الحوار دونما الاتفاق على مصير انتخاب الرئيس. لكن سيكون من المتعذر انتزاع موافقة الافرقاء الحاضرين جميعاً على الانتقال من بند اول الى بند ثان دونما احراز ذلك التقدّم. وهي الحجة التي يتمسك بها افرقاء قوى 14 آذار. اذ ذاك يفقد الحوار مغزاه وجدواه والحاجة من ثم الى استمراره، متى سلّم الافرقاء المعنيون بعدم توافقهم على اجراء الاستحقاق واهماله مجدداً.
بدوره التوصل الى تفاهم كهذا، وتبعا لذلك انجاز انتخاب الرئيس، يحيل الطاولة بدورها عديمة الاثر لأن المهمة تنتقل عندئذ الى رئيس الجمهورية المنتخب، سواء بتأليف الحكومة الاولى للعهد او العودة بقوانين الانتخاب واللامركزية الادارية والجنسية الى السلطتين الاجرائية والاشتراعية اولا باول.
4ــــ رغم تشبث اطراف الحوار بعدم تحوّل طاولتهم بديلا من مجلس الوزراء او تكريسها دوام الشغور الرئاسي بحيث تمسي اقرب الى ادارة جماعية ودية للانقسام الحاصل، الا انها تبدو الآن المكان الاقل استفزازاً. فيها يحضر رئيس الحكومة تمام سلام والكتل التي يتألف منها مجلسا الوزراء والنواب على السواء. لا احد يتصرف على انه يملك حق فيتو على اي من بنود جدول الاعمال، ولا احد يطلب تعديله او تجاوزه. ليس بينهم مَن يهدد بمغادرة الطاولة ومقاطعتها او الانقطاع عنها، بل يتصرفون على انها حاجة ملحة لهم بينما يتشبثون بمواقفهم المسبقة، من دون ان يتزحزحوا عنها. لا تتوقع طاولة الحوار بالضرورة التوصل الى اتخاذ قرارات، وليست المكان المناسب لها، الا انها تحول حتماً دون انقطاع التواصل.