Site icon IMLebanon

من نلسون مانديلا إلى إنتفاضة العدالة في لبنان

 

اخوتي  في انتفاضة العدالة،

 

بما أن ثورة جنوب أفريقيا كانت الأنموذج الناجح الأول بين ثورات القرن العشرين،

 

وحيث أنني أخشى شطط انتفاضتكم عن أهدافها وانزلاق الوضع نحو عنف يطيح بالوحدة الوطنية والسلم الأهلي، أحسست أن واجب النصح أولا، والوفاء ثانيا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام نزاع الفصل العنصري يحتمان عليّ رد الجميل وإبداء رأي أنضجته التجارب وزنزانة السجن لأقول لكم من العقل والقلب:

 

ما زلت أذكر ذلك اليوم بوضوح، كان يوما مشمسا من أيام (كيب تاون). خرجت من السجن بعد أن سلخت بين جدرانه لأنني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ورغم أن اللحظة أمام سجن (فكتور فستر) كانت صعبة إذ رأيت وجوه أطفالي وأمهم بعد زمن طويل، لكن السؤال الذي ملأ جوارحي حينها هو: كيف يجب أن نتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟ أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم إذ أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم وإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل.

 

ان معظم وقتكم مهدر اليوم في شتم كل من له صلة تعاون بالنظام الفاسد وكأن الانتفاضة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والانتقام وإقصاء من له صلة بالنظام القائم. أنا أعرف أن مرارات الظلم جارحة، إلا أنني أرى أن استهداف هذه الطبقة الواسعة من مجتمعكم قد يسبب للانتفاضة متاعب خطيرة. فمؤيدو النظام يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الدولة وكل مواردها، فاستهدافهم سيدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم أهدافهم في هذه المرحلة التي تتميّز بالهشاشة الأمنية، وأنتم في غنى عن ذلك.

 

أحبتي  ثوار انتفاضة العدالة،

 

إن أنصار النظام ممسكون بمعظم المؤسسات التي قد يشكل استهدافها كارثة (سياسية – أمنية – اقتصادية) أنتم في غنى عنها اليوم. لذلك عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام في النهاية هم مواطنون ينتمون الى لبنان، فاحتواؤهم هو أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر، وأعتقد أن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات العدالة أثناء وما بعد الانتفاضة.

 

أعلم أنه يزعجكم بل يغضبكم أن تروا وجوه النظام المنافقة ذاتها تتحدث اليوم وتمجّد انتفاضتكم، شجعوهم على ذلك حتى تحيّدوهم، وثقوا أن مجتمعكم الواعي في النهاية لن يؤيّد إلا من ساهم في ميلاد عدالته وحريته.

 

أذكر جيدا أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحدٍّ واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كان يريد أن يحاكم بشكل متطرّف كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وبرهنت الأيام أن هذا الخيار كان الأمثل ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الفوضى والعنف أو إلى الديكتاتورية. لذلك قمت بتشكيل لجنة الحقيقة وجلس فيها المعتدي والمعتدى عليه حيث كان المعتدى عليه هو الأقوى، وأنتم الأقوى اليوم، إنها سياسة مرّة لكنها ستكون ناجعة. أرى أنكم بهذه الطريقة ودون أية منافع شخصية لرموزكم سترسلون رسائل اطمئنان إلى اللبنانيين أن لا خوف على مستقبلهم في ظل الانتفاضة، فلا تدعوا خوف المواطنين من المجهول يسلخ عنكم العقول والقلوب والحناجر الهادرة في ساحات وطنكم الجميل.

 

اخوتي  في ثورة العدالة،

 

إن النظر إلى الحاضر والمستقبل والتعامل معهما بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند الماضي المرير. لماذا لا يكون الحوار الوطني في لبنان بمثابة حوار العدالة كما فعلت أنا واستحقيت على أساسه لقب (أيقونة القرن العشرين)؟

 

ومن خلالكم أقول لمسؤولي أحزاب السلطة:

 

حتى ولو كنتم أقوياء جدا ومتمرّسون جدا على المسرح (السلطوي – السياسي – الأمني – المالي)، أنصحكم ألاّ تكابروا، تواضعوا واسمعوا جيدا وانصتوا وأنظروا مليا في عيون الثوار بل في قلوبهم وخصوصا أولئك الشابات والشبان، بادروا الى النزول من عروشكم (السلطوية -السياسية – الأمنية – المالية) الظالمة ولبّوا مطالبهم المشروعة.

 

ان أغلبكم هو في خريف العمر لا بل في شتائه، لا تدعوا قبوركم مربعات أمنية أيضا، مربعات حقد وشتائم وغضب وكراهية لن تنتهي، اجعلوها مكانا للورد وللرياحين، وتذكروا جيدا أنه سيأتي يوم قريب حيث البكاء وصرير الأسنان، ناره لا تنطفئ ودوده لا يفنى، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون باذن الله القدوس الرحمن الرحيم.

 

ولكم أحبتي الثوار أقول:

 

انكم مطالبون فورا بوضع رؤية استراتيجية ذات مصداقية (وطنية – شعبية) عابرة للطوائف والأحزاب:الولاء هو للبنان فقط، حاوروا أنصاركم وخصومكم والمترددين حول رؤيتكم إذ أنه في غياب الحوار الأبيض يظهر العنف الأحمر.

 

انكم تحتاجون الى دعاية العقل كما الى دعاية العاطفة التي أراها طاغية عندكم، لا تكتفوا بها لأن الهتافات والشعارات والأغاني والموسيقى الصاخبة فقط في الساحات لا تصنع الانتفاضات بل هي تشحن الجماهير بسرعة ولزمن قصير جدا، ولكن سرعان ما ستجهض ظاهرة (الانهاك النفساني) انتفاضتكم لا سمح الله.

 

ثقفوا أنصاركم بثقافة ثورات العدالة الواعدة، حصنوا نفوسهم ضد الاغراق الاعلامي، عززوا في نفوسهم شجاعة مواجهة الصعوبات القاسية القادمة بالتأكيد، فالطريق ما يزال طويلا جدا وتوصيفات مجتمعكم هي من الأصعب فهما والأكثر تعقيدا في العالم.

 

واعلموا أن الصراع على السلطة هو الصراع الأكثر وحشية ودموية ورعونة وظلما وشراسة منذ فجر التاريخ، حتى بين الأرحام!. رواية موثوقة تقول: سأل الولد الصغير أباه الخليفة مستفسرا: ما معنى الحكم يا مولاي؟ أجاب الخليفةك انه الأمر الذي لو نازعتنيه لاقتلعت ما بين عينيك!!!

 

احترموا مدونة سلوك الانتفاضة ومنظومة قيمها الوطنية والأخلاقية، ان عدم الالتزام بها سينتج فشلا أكيدا وبالتالي ادانة تاريخية لكم.

 

أحرسوا مشروعكم بعقولكم والقلوب، ما زلتم في بداية البدايات، ودون انجازكم التاريخي صعوبات وابداعات وتضحيات كبيرة. ان حقوق وأحلام مواطنيكم تنتظركم.

 

أستودعكم الله – سلطة وانتفاضة – وأختم: ليكن الحوار الوطني الواقعي العقلاني المؤمن البعيد عن الاستكبار والانتقام والحقد والكيدية والارتهان والفساد خيارا» في التوقيت الذي يلائم أجندة الانتفاضة قبل غيرها لأنها اليوم هي وحدها صوت المقهورين المظلومين الذين سحقتهم السلطات المتعاقبة منذ ثلاثة عقود بفساد متوحش لا مثيل له في التاريخ المعاصر،ليكن خيارا يؤمّن مساحة تلاقي وعدالة في الوقت الذي تتداعى فيه بنية دولتكم وتقترب من الانهيار.

 

—————-

 

(*) أستاذ جامعي – رئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية.عميد ركن سابق