كتب محمود عبد الهادي:
هل سمعت بقصة شمشون؟ أو شمشون الجبار؟ أو شمشون ودليلة؟ وهل تعرف صراعه مع فلسطينيي غزة قبل أكثر من 3000 عام؟ إنه الشخصية اليهودية الأسطورية التي وردت قصتها ضمن الأساطير العديدة التي حفلت بها أسفار التوراة أو ما يعرف بـ«العهد القديم»، حيث تكشف لنا أسطورة شمشون كيف ظلت غزة على مرّ التاريخ اليهودي، عقدة غائرة في الذهنية اليهودية الدينية، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويتربصون الفرصة تلو الفرصة لكي يثأروا من سكانها، ويستولوا عليها. تتحدث هذه الأسطورة الواردة في «سفر القضاة» عن «شمشون» الذي بشّرت الملائكة والديه بأنه سيكون له شأن كبير وسيمدّه الله بقوة هائلة تساعده على تخليص اليهود من الاضطهاد والعناء الذي يتعرضون له على أيدي الفلسطينيين في مدينة غزة عاصمة مملكتهم التي امتدت حوالي 6 قرون في الفترة بين القرن 12 قبل الميلاد والقرن السادس قبل الميلاد، وشملت كذلك أربعة مدن أخرى إضافة إلى غزة هي: عسقلان وأسدود وعقرون (عاقر) وغات (الفالوجا وعراق المنشية لاحقاً).
التوظيف السياسي للأسطورة
تذكر الأسطورة التوراتية أن قوة شمشون كانت خارقة، وتكمن في شعره الذي لم يقصّه منذ ولادته، لدرجة أنه استطاع أن يقتل أسداً بيديه العاريتين، أثناء ذهابه للزواج من الفتاة الفلسطينية التي أحبها، وأن يقتل وحده ألفاً من الفلسطينيين مستعيناً بعظمة فك حمار، بعد فشل زواجه.
فشل الفلسطينيون في إلقاء القبض على شمشون، فاحتالوا على عشيقته دليلة، وأغروها بالمال لتعرف سر قوته، وبعد أن أخبرها شمشون بذلك، قامت بإسكاره وقصّ شعره وتسليمه للفلسطينيين الذين اعتقلوه وعذّبوه وفقأوا عينيه، وسخّروه للعمل في طحن الشعير.
وبينما كان الفلسطينيون يحتفلون بإلقاء القبض على شمشون، ويقدّمون القرابين للإله (داغون) الذي كانوا يعبدونه حينها، بحضور شمشون الذي تاب عن أخطائه، ونما شعره وعادت له قوته، فتحسس مكانه بين العمودين الذين يقوم عليها سقف المعبد لينهار فوقه وفوق الحاضرين.
وازداد الاهتمام اليهودي بأسطورة شمشون منذ بدايات القرن الماضي، مع ظهور الفكرة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم احتلالها وإقامة دولة الكيان الصهيوني عليها سنة 1948م، بعد تهجير أهلها تحت القصف والقتل والمذابح المتلاحقة. ومنذ ذلك الحين وهم يسخرون إمكاناتهم السينمائية والإعلامية والتعليمية لاستغلال هذه الأسطورة استغلالاً سياسياً يتلاءم مع المراحل التي مرّ بها مشروع دولة الكيان الصهيوني، حيث تعدّ قصة شمشون الأكثر ملاءمة لتغذية عقل المجتمع الغربي ووجدانه بألوان الاضطهاد التي كان اليهود يتعرضون لها على أيدي الفلسطينيين، وبضرورة دعمهم في استعادة أرضهم التي وهبها الرب لهم واغتصبها منهم الفلسطينيون، وبتسهيل إقناعهم بالحجج التي يقدّمونها لتبرير الجرائم والانتهاكات التي يقومون بها ضد الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 100 عام حتى اليوم.
لم يكن غريباً أن نجد أسطورة شمشون تحتل مكانها في السينما منذ السنوات الأولى التي ظهرت فيها الأفلام الصامتة، والتي كانت الشركات اليهودية تسيطر على صناعتها، فبعد عامين من تأسيس المنتج السينمائي «كارل ليميل» (1867-1939م) لشركة يونيفرسال للإنتاج السينمائي عام 1912م، وهو أميركي من أصل يهودي؛ قام بإنتاج أول فيلم صامت بعنوان (شمشون) عام 1914م، قبل ثلاثة أعوام من صدور وعد بلفور بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود.
ومع تنامي حركة الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، قام ألكساندر كوردا (1839-1956م) وهو بريطاني من أصل يهودي؛ بإنتاج فيلم صامت بعنوان (شمشون ودليلة)، كتب له السيناريو وقام بإخراجه.
ومع احتلال فلسطين عام 1948م وإعلان قيام دولة إسرائيل، أنتجت شركة بارامونت الأميركية (اليهودية) عام 1949م فيلماً بعنوان (شمشون ودليلة) بتكلفة بلغت ثلاثة ملايين دولار حينها، وحقق أرباحاً تجاوزت 25 مليون دولار، والفيلم مأخوذ عن رواية (القاضي والخداع Judge and Fool) لليهودي الصهيوني زئيف جابوتنسكي (1880-1940م)، وإخراج الأميركي من أصل يهودي؛ سيسيل ديميل (1881-1959م) المعروف بـ«أب السينما الأميركية».
وفي الفترة نفسها أنتج أحمد سالم للسينما المصرية فيلم (شمشون الجبار) الذي صدر في أبريل/ نيسان من عام 1948م، سيناريو وحوار وإخراج كامل التلمساني وتمثيل سراج منير وهاجر حمدي وعماد حمدي ومحمود المليجي وعبد الوارث عسر، وقد تناول الفيلم أسطورة شمشون دون الإشارة إلى اليهود وفلسطين، وإنما صوّر شخصية شمشون على أنه لم يفعل إلّا الخير، ولم يتخلّ عنه الرب، فأعاد إليه شعره، وتمكّن من هدم المعبد وهزيمة الأمير الغازي وطرده، كما طرد دليلة بعد أن تعلّم ألا يستسلم لامرأة مرة أخرى.
واستمر توظيف أسطورة شمشون بعد ذلك باهتمام كبير، في الدراما السينمائية والتلفزيونية، وفي قصص الأطفال وأفلام الرسوم المتحركة، والكتب التعليمية، وبشتى اللغات، وكثيراً ما كانت تتزامن مع التطورات السياسية والعسكرية للصراع العربي-الصهيوني أو الفلسطيني-الصهيوني، حيث تم إعادة إنتاج فيلم «شمشون ودليلة» في عام 1961م، بعد العدوان الثلاثي على مصر، وفي عام 1981م، بعد معاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني، وقبيل اجتياح بيروت، وفي عام 1948م عقب اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير إلى السودان وتونس واليمن، وفي عام 1987م، بالتزامن مع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي عام 1996م، بالتزامن مع اتفاقية السلام بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني. وغيرها ذلك العديد من المسلسلات والأفلام الوثائقية والرسوم المتحركة، وكان آخرها فيلم (شمشون) عام 2018م من إنتاج شركة (Pinnacle Peak Pictures) الأميركية المتخصصة في إنتاج الأفلام الدينية المسيحية.
شمشون نتنياهو
يوضح لنا العرض السابق؛ إلى أي مدى تمّ تعبئة الذهنية اليهودية والمسيحية الغربية بأسطورة شمشون، وانتقامه من الشعب الفلسطيني، وخاصة في قطاع غزة. ولم يفت رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو أن يقتبس في خطاباته التي وجّهها للشعب الإسرائيلي بعد «طوفان الأقصى» بعضاً من الإشارات التوراتية ذات الصلة بهذه الأسطورة، والتي تحرّض الشعب اليهودي على إبادة أهل غزة دون أن تأخذه شفقة ولا رحمة، فهو إنما يفعل ذلك قربى للرب واستجابة لتعاليمه، وبالتالي هو يتعبّد إلى ربّه بالمشاركة في هذه الإبادة البربرية التي يقوم بها الكيان الصهيوني. قال نتنياهو «تقول لنا التوراة تذكّر ما فعله بك العماليق»، ومن هذه الأقوال التي وردت في مواضع عديدة في أسفار التوراة المليئة بالأساطير والافتراءات والعنصرية والتمييز: «الآن اذهب واضرب العماليق، وحرموا عليه كل ماله، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل، رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً»، من سفر صموئيل، ومنها أيضاً ما ورد في سفر التثنية «فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك، في الأرض التي يعطيك إلهك نصيباً لكي تمتلكها، تمحو ذكر العماليق من تحت السماء».
تناسى نتنياهو الذي تقمّص دور شمشون في معركة «السيوف الحديدية» التي يخوضها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة؛ تناسى أن هذا الشعب، وإن كانت أصوله ترجع إلى العماليق، إلّا أنه شعب مؤمن وموحّد بالله، وأن العماليق سلّطهم الله على بني إسرائيل بسبب فجورهم وفسقهم وتركهم تعاليمه، وأن المشروع الصهيوني بإقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين؛ هو مشروع إجرامي ظالم مخالف لتعاليم الله، ونسي نتنياهو كذلك أمراً مهماً، وهو أن شمشون لم يقضِ على الفلسطينيين في غزة، وإنما كانت نهايته الموت تحت ركام المعبد الذي هدمه فوق رؤوس الفلسطينيين الموجودين فيه.
لم ينجح نتنياهو في تحقيق شيء من أهدافه المزعومة الظاهرة منها والخفية، وما زال يتخبط داخلياً وخارجياً محاولاً ألا تكون نهايته كنهاية شمشون.
* كاتب صحفي وباحث