يُمضي وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري معظمَ أوقاته، هذه الأيام، على ضفاف الشرق الأوسط. الإغراءاتُ كثيرة، وترسيم حدود المصالح يحتاج إلى متابعات مستمرّة.
إلتقى كيري رئيسَ الوزراء بنيامين نتنياهو بهدف الحد من الجموح، فالممارسات هستيريّة من دون ضوابط: يقتل الإنفعالُ وزيراً فلسطينياً (زياد أبوعين)، وليس من مبرّر مقنِع. يمضي قدُماً في سياسة الإستيطان، غيرَ عابئ بالموقف الدولي. يُمعِن في شفطِ الغاز والنفط من المتوسط، غيرَ مبالٍ بالحدود المائيّة.
يرسِل طائراته من دون طيّار فوق مطار رياق في نزهةٍ استفزازيّة. يضاعف من أبراجه الإستكشافيّة الإلكترونيّة في محازاة الجنوب غيرَ مكترثٍ بتقارير «اليونيفيل». يُغِير على ريف دمشق فجأةً، ليوجِّه رسائل عاجلة في اتّجاهات عدّة، مستفِزّاً الجميع.
هل يقتنع بجدول زمني لإنهاء احتلاله للأراضي الفلسطينيّة؟ هذا ما ستُظهِره نتائج المحادثات، إلّا أنّ الثقة بين الرجلين معطوبة، ذلك أنّ نتنياهو يحمّل إدارة الرئيس باراك أوباما جزءاً من أزمته الحكوميّة.
يتّهمها بالتسَلّل من الأبواب الخلفيّة لبعثرةِ صفوف ائتلافه. ويبدو أنّه قبلَ التحدّي، وقرّرَ إجراء انتخابات مبكّرة، وعيّنَ موعداً مبدئيّاً للذهاب إلى الصناديق، وترَك لنفسه هامشاً واسعاً من المناورات. فالمعركة بدأت، وكلّ الأسلحة يمكن استخدامها لتحقيق النصر.
مهمّة كيري «الترويضيّة» معقّدة، ورسائل الغارتين لم تلقَ جواباً. دمشق لاذَت بالصمت. طهران تصرّفَت، ولا تزال، وكأنّ الأمر لا يعنيها. «حزب الله» لا يزال يدرس، ويتمعَّن، ويُحلّل «الشيفرة». تتّهمه إسرائيل بحَفر الخنادق، لا يردّ. تتّهمه ببناء تحصينات متطوّرة تحت الأرض، لا يكترث.
بعض الدبلوماسييّن الغربيين يصف وضعَه بـ»المحشور». هناك إمارة إسلاميّة ترتفع مداميكها على أكتافه، وتحاصِره من البقاع الغربي، مروراً بالجولان، وصولاً إلى مزارع شبعا، وهو يُدركُ تماماً أنّ «أمّ المعارك» في ذلك المثلّث، بدأت تتوضّح معالمُها، فالتنسيق قائمٌ ما بين الإسرائيليّين والأصولييّن من «داعش» إلى «جبهة النصرة» إلى «أحرار الشام».
تعاوُنٌ مخابراتي، توزيعٌ للأدوار، تزويدٌ بالسلاح والخطط، والمعلومات حول التحرّكات الميدانيّة، وكأنّ الهدف من الغارتين، القيام فوراً بردّ فعلٍ عكسيّ، ليفيضَ الطوفان.
تركَ الحزب «التفاصيلَ الصغيرة» في صيدا، والتعمير، وعين الحلوة إلى السلطات الأمنية، على رغم أنّه يعرف تماماً مدى خطورتها على مربّعه الأمني، وواقعِه الميداني في الجنوب. لكنّ «الدويلة» أخطرُ، ومداميكها تماهَت في الارتفاع، وما تشهدُه الأرض ليس حصاراً، بل قطعُ أنفاس، وإذا كان الهدف من الغارَتين قطعَ طرُق الإمداد ما بين طهران وكوادر الحزب في كلّ من سوريا والجنوب، فإنّ «تأسيسَ الدولة الإسلامية» على تخوم جبل عامل، لن يقطعَ الأنفاس فقط بل الشرايين أيضاً.
سبقَ لقاء نتنياهو – كيري في روما، وصولُ نصائح أميركيّة إلى بيروت. على الجيش أن يُعيدَ انتشارَه في الجنوب، ويعزّزَ وحداته ومخافرَه. كيف يفعل وهو مكلّف بملاحقة الإرهاب من عرسال إلى الشمال، ومن البقاع إلى معظم المناطق التي تتكاثر فيها الخلايا الإرهابيّة التي تديرها شبكات واسعة من المخابرات؟.
السلاح الأميركي متوافر، و«غبّ الطلب»، والسلاح الفرنسي على الطريق تحت الرعاية الأميركيّة، وما يجري حاليّاً إعداد «أمر المهمّة»، وهنا يكمن اللغز الكبير.
يعتقد البعض بأنّ عمليّة «الترويض» التي يقوم بها كيري مع تل أبيب، يستفيد منها الحزب إذا عاد من متاهات سوريا إلى لبنان ليشكّل سلاحه مع سلاح الجيش درعاً ليس لمكافحة الإرهاب الوافد أو المتسلّل من العمق السوري، بل لمنعِ قيام الدويلة أو الإمارة على تخوم الجنوب وأنقاض القرار 1701.
أمّا إذا ما استمرّ منفلشاً على هذا النحو في الداخل اللبناني والسوري، وربّما العراقي أيضاً، فإنّ خططاً مرسومة ستأخذ طريقَها نحو التنفيذ، وسيخرج الجيش منها منتصراً ليس على الإرهاب الذي يستنزفه حاليّاً، بل على السلاح اللاشرعي الذي حوّل لبنان، غابة.
عند الأميركي أكثر من ذريعة وحجّة تفرض محاولاته الترويضيّة، ليس نتنياهو وحدَه من يَحفر فوق الأرض للتطاوُل على التحالف الدولي، وأولوياته في المنطقة، بل هناك الحزب الذي يحفر بدوره، لكن هذه المرة تحت الأرض، لتميد بما فيها، وعليها، في اللحظة التي يختارها.
يكمن في دوافع الغارَتين لغزٌ كبير حتَّم الصمتَ المطبق على الأهداف والنتائج، لكنّ اللغز الأكبر يكمن في المدى الذي بلغَته العلاقات الإيرانيّة – الأميركيّة، والأساسات التي تمّ إرساؤها، والمداميك التي بدأت ترتفع، وهذا «ما يطيّر عقلَ» نتنياهو، ويدفع به نحو الجنون.