في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1997، تلقى مدير جمعية «لينكولن» للمحامين البريطانيين رسالة من الدكتور صلاح قيناوي، نائب المدير العام للمركز الثقافي الإسلامي في لندن، هذا نصّها:
«حضرة المدير المحترم،
لفت انتباهنا أحد الإخوان في الإسلام إلى محتوى الكتيّب الذي توزعه جمعيتكم، والذي يتضمن وصفاً كاملاً للوحة ضخمة (14 متراً طولاً و13 متراً ارتفاعاً)، رسمها جي. إف. واط، على الجدار الشمالي من القاعة الكبرى.
ووفق نصوص الكتيب، فإن اللوحة التي تشبه جدارية كبيرة، تضم صور 24 مشترعاً بارزاً بينهم صورة النبي محمد (صلعم).
نحن لا يمكننا أن نتصور من أين جاء الرسام بملامح النبي محمد (صلعم)، علماً أنه لا يوجد له أي رسم أو صورة. كما أن الأمة الإسلامية جمعاء لا تؤمن بأن هذا الرسم المتخيَّل هو للنبي.
لهذا، نتقدم باسم الجالية المسلمة في بريطانيا بشكوى ضد هذا التحريف الجسيم المسيء إلى مشاعر فئة كبيرة، وندعوكم إلى إزالة هذا الرسم من مؤسسة ثقافية اشتهرت بسمعة طيبة لإعداد محامين أمام المحاكم العليا.
وعليه، نحن نقدِّر لكم كل خطوة تتخذونها لإيلاء هذا الموضوع الجديّ الاهتمام الذي يستحقه.
مع الأمل بأن نسمع منكم قريباً.
الدكتور صلاح قيناوي
نائب المدير العام للمركز الثقافي الإسلامي
وكان واضحاً من ديباجة الرسالة أن الدكتور قيناوي توقع إزالة صورة النبي، لأنها في رأيه غير صحيحة، ولأن إبرازها بهذا الشكل يُغضب أبناء الجالية الإسلامية.
إدارة جمعية لينكولن للمحامين اختارت الدكتور جمال ناصر ليتولى مسؤولية الدفاع ويعطي تقييمه الحاسم في موضوع بالغ الحساسية. وقد أمضى وقتاً طويلاً في مراجعة أسباب الشكوى، خصوصاً أن ماضيه وزيراً للعدل في الأردن وعضواً في مجلس الأعيان ساعده على تطمين الشاكي إلى نزاهة التحكيم وموضوعيته.
وبعد مضي فترة طويلة أمضاها المحامي جمال ناصر في مراجعة سور القرآن الكريم والتنقيب في أحاديث المجتهدين وعلماء الفقه، تبيَّن له خلو هذه المراجع من أي نصّ مكتوب يحرِّم الصور المتخيلة لملامح النبي محمد (صلعم)، لكنه اكتشف في الوقت ذاته أن النبي كان يحرِّم عبادة الأوثان، ويمنع صناعة التماثيل، لا فرق أكانت من الحجر، أو من التمور.
وقال المحامي ناصر في حينه إن التفهم الذي أبداه الفريق المعترِض كان على جانب كبير من الأهمية، بحيث تم استيعاب الاختلاف في وجهات النظر، بعكس الحادث الذي أثار حفيظة المسلمين في هولندا بسبب عرض فيلم يقدم رسماً كاريكاتورياً مسيئاً للنبي محمد. وتبيّن بعد تحقيق الحكومة أن النائب غيرت فيلدرز كان وراء إنتاج فيلم «الفتنة» الذي ينتهي بعبارة: «أوقفوا الأسلمة… ودافعوا عن حريتكم».
عقب عرض الفيلم، اجتاحت الدول الإسلامية موجة من تظاهرات الغضب، بدأت في إيران وباكستان وانتهت في أفغانستان، حيث نشر حلف شمال الأطلسي آلاف الجنود بينهم 1650 من هولندا.
وحيال التهديدات التي تلقاها النائب الهولندي من أبناء الجالية العربية، طلب من الحكومة منحه حراسة مشددة، خصوصاً بعد اغتيال المخرج ثيو فان- كوخ الذي أنتج فيلماً ينتقد فيه معاملة الإسلام المرأة.
ولمّا طالبت الجالية المسلمة في سويسرا بالموافقة على بناء مسجد، أحالت الحكومة الاتحادية هذا الطلب على الاستفتاء، فرفض الناخبون الطلب بنسبة 58 في المئة، الأمر الذي أزعج وزيرة الخارجية ودفعها إلى القول: «كل إساءة إلى تعايش الثقافات والديانات تعرّض أمننا للخطر وتبعدنا من ظروف العولمة والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان».
ومع أن غالبية المسلمين في ألمانيا تعود إلى جذور تركية قديمة، إلا أن ذلك لم يمنع المهاجرين في شتوتغارت وكييل من الاحتجاج والتظاهر. ولما بلغ سكان مدينة درسدن أن عدد المتظاهرين تجاوز الخمسة آلاف نسمة، نظمت جمعية «بيغيدا» تظاهرة مضادة من عشرة آلاف شخص ملأ ضجيجهم شوارع كولونيا وهانوفر. و «بيغيدا» هي مختصر كلمات مركبة، وتعني بالألمانية: «وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب.» ومع أن هذه الجمعية تفاخر بتوجهاتها المسالِمة، إلا أن ذلك لم يمنعها من إرسال خمسين جريحاً من الشرطة إلى مستشفيات كولونيا.
ويقول إمام مسجد ميونيخ إن المسلمين في أوروبا يواجهون مقاومة عنيفة لمشاريع بناء مساجد تتناسب مع وضع الإسلام كثاني ديانة في القارة. ذلك أن المنتقدين ينظرون إلى تلك المشاريع كمؤشرات على نشاط «الأسلمة.»
وعندما تنامى الاعتراض في لندن على بناء مسجد كبير يتسع لـ12 ألف مصلٍ، كانت الحجة أن مساجد العبادة تحولت ملاجئ للجهاديين والإرهابيين، ذلك أن ريتشارد ريد -وهو من المدمنين على الصلاة في الجامع- حاول إسقاط طائرة مدنية بتفجير عبوة صغيرة كانت مخبأة في كعب حذائه، كما تبيّن للمحققين في لندن أن اثنين من الانتحاريين الذين فجروا حافلة ركاب في تموز (يوليو) 2005 كانوا ممن يواظبون على حضور الصلوات في الجامع.
أما في إيطاليا، فقد دعت الرابطة الشمالية المناهضة للهجرة إلى ضرورة قيام الشرطة بمراقبة أمنية متواصلة للجوامع. ولما ترددت السلطة في الاستجابة لهذا الطلب الاستفزازي، قام المحتجون بوضع رأس خنزير على باب مسجد في بلدة «كولي دي فال».
ويدّعي رئيس بلدية أثينا السابق أن تردده في الموافقة على بناء أول مسجد في العاصمة اليونانية سنة 2007، مردّه إلى ترسبات خوف تاريخي من حكم الإسلام الذي عاشوا في ظله أربعة قرون أثناء حكم الإمبراطورية العثمانية البلاد.
ومع أن إسبانيا تساهلت في هذا الموضوع، خصوصاً في الأندلس، حيث ظلت الثقافة الإسلامية تنتشر على امتداد ثمانية قرون، أي حتى سنة 1492، إلا أن زعماء الكاثوليك رفضوا طلباً من المسلمين للصلاة في كاتدرائية قرطبة التي كانت في الأصل مسجداً.
وعلى أثر انتقال شريحة كبيرة من المسلمين للعيش في البلدان الأوروبية، ظهرت بجلاء نظرية «صِدام الحضارات»، كل ذلك بسبب انسلاخ جيل قديم عن محيطه العائلي والوطني السابق، وظهور جيل جديد يجري تثقيفه وفقاً لمعايير مخالفة لمشيئة ذويه.
وقد مثلت الجالية المسلمة في فرنسا هذا التناقض بأجلى معانيه، خصوصاً أنها الجالية الأكبر عدداً في كل البلدان الأوروبية، وأن أفرادها يتحدرون من أصول جزائرية ومغربية وتونسية، أي حيث جثم الاستعمار الفرنسي أطول مدة.
أول صِدام بين الجالية المسلمة والحكومة الفرنسية حدث أثناء الاحتفال بمرور مئة سنة على إعلان الدولة العلمانية، ففي سنة 1905 صدر قانون فصل الدين عن الدولة، أي لم يعد بمقدور الكنيسة أن تتدخل في شؤون الحكم، ولا الحكم في شؤون الكنيسة. ولم تكن الجالية المسلمة موجودة في فرنسا عندما سنّ هذا القانون، في حين شكّل وجوده الطاغي سنة 2005 مشكلة جدية سميت «إسلاموفوبيا»، أي الخوف من الإسلام!
وقد تزامنت تلك الاحتفالات مع النقاش الدائر في الأوساط السياسية الفرنسية حول مشكلة حظر النقاب ومدى تعارضه مع الهوية الوطنية. ورأى في حينه رئيس الوزراء فرانسوا فيون، أن المسلمات اللواتي يغطين رؤوسهن ووجوههن في شكل تام يمثلن تحدياً غير مقبول لقيم الجمهورية العلمانية.
في زحمة الخلاف على شرعية ارتداء النقاب أو حظره، ظهرت على سطح الأحداث ظاهرة إعلامية استغلت مناخ الحرية لتعيد نشر رسوم مسيئة للإسلام منقولة عن الصحيفة الدنماركية «ييلاندس بوستن». وكان من الطبيعي أن تواجه المجلة الأسبوعية «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة، التهديد والوعيد من جماعات إسلامية متطرفة. والثابت أن ازدياد توزيع هذه المجلة عن 30 ألف نسخة كان يتوقف على درجة الإثارة التي تتضمنها رسومها الكاريكاتورية. من هنا يرى المراقبون أن الرسم المسيء لنبي المسلمين زاد من كمية التوزيع، ولكنه في الوقت ذاته زاد غضب المسلمين ضد المحررين، الأمر الذي انتهى باغتيال الغالبية منهم.
ولكن، لماذا اختار زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري هذا الوقت لإصدار حكم الإعدام على طاقم المجلة، علماً أن الإساءة إلى المسلمين ونبيهم كانت تحصل قبل زمن بعيد؟
البعض يفسر التوقيت بأنه الرد الانتقامي لمقتل أنور العولقي في اليمن. والصحيح أن زعيم «القاعدة» الجديد أيمن الظواهري كان يعاني من مرارة التهميش منذ ولادة «داعش»، على اعتبار أن أبو بكر البغدادي سرق منه كل الوهج والاهتمام الإعلامي. لذلك افتعل عملية «شارلي إيبدو» كي يجدد دور معلمه أسامة بن لادن، ويحذر فرنسا والدول الغربية الأخرى من تبعة إهماله أو تجاهله.
المستفيد الآخر، من هذه الجريمة المروعة، كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، ذلك أنه اشترك في مسيرة الرئيس فرانسوا هولاند من دون دعوة رسمية. ثم قام بإحياء مبادرة أرييل شارون لأسباب انتخابية محلية.
والمعروف أن شارون كان صاحب مبادرة سياسية خطيرة تهدف إلى ترحيل نصف مليون يهودي فرنسي إلى إسرائيل. ولما قوبلت دعوته بالرفض القاطع، طلب من «الموساد» ترويع يهود فرنسا من طريق نبش قبور موتاهم، وتفجير منازلهم ومحلاتهم. ولم يتوقف عن حملة الابتزاز إلا عندما اكتشفت الاستخبارات الفرنسية أن الأجهزة الإسرائيلية تقف وراء تلك العمليات المريبة.
والمؤكد أن نتانياهو أراد ترويع يهود فرنسا بإصراره على نقل جثامين أربعة منهم إلى إسرائيل حيث دفنوا كمواطنين مزدوجي الولاء. وقد برر عمله المستهجَن بالقول إن لاساميّة جديدة بدأت تطل برأسها في فرنسا، بعدما اقتنع يهود العالم بأن محاكمة الضابط ألفرد دريفوس لن تتكرر بعد سنة 1894.
بقي أن نذكر أن شعبية هولاند ارتفعت بصورة غير متوقعة. ولكنها معرضة للانحدار في حال اضطر إلى التنازل عن حرية النظام العلماني من أجل احتواء الإسلام السياسي.