صائب، إلى حد كبير، توصيف السيد حسن نصر الله للقاء الثنائي دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو وما خرج عنه من موقف على أنه إعلان لوفاة المسار التفاوضي. الغائب في هذا التوصيف أن المعيار الوحيد لتحديد هذه الوفاة، بناء على هذا اللقاء، هو تجاوز الإدارة الأميركية الحالية لثابتة في العقود الأخيرة دأبت عليها الإدارات المتعاقبة، وتتعلّق بالإقتناع بـ«حل الدولتين»، أي الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية. هذا لا يعني أنّ ترامب يتفق مع نتنياهو على طول الخط، ولا أنّ الإدارة الأميركية لديها فكرة واضحة، أو يهمها أن تكون فكرة واضحة جديدة وبديلة عن «حل الدولتين». لكن التناقض الأميركي – الإسرائيلي في عزّ التقارب بين ترامب ونتنياهو، بعد عهد الجفاء بين إسرائيل وباراك اوباما، لا يمكن شطبه بجرة قلم. فإذا كانت أميركا «تستغني» في أدبياتها عن «حل الدولتين»، فهذا يعني بطبيعة الحال أنّها تبتعد أكثر عن موقف اليمين الإسرائيلي المشدّد على «يهودية الدولة»، بل أنّ ترامب ارتجل شعار «الدولة الواحدة ثنائية القومية»، ليذكرنا بـ«إسراطين» التي دعى اليها معمّر القذافي في واحدة من شطحاته.
يأتي هذا في وقت كشفت صحيفة «هآرتس» عن المبادرة التي قام بها جون كيري العام الماضي للتقدّم بإتجاه تسوية تعطي رصيداً لحل الدولتين، وكيف قطع نتنياهو الطريق عليه رأساً. يأتي أيضاً في وقت عاد التوتر بين «حزب الله» واسرائيل الى مركز الإهتمامات، على خلفية التهديدات الإسرائيلية بحرب جديدة، ودعوة الأمين العام لـ «حزب الله» في المقابل الجانب الإسرائيلي الى تفكيك مفاعيل ديمونا، وتوعده إسرائيل بإصابتها في عمق أمنها النووي. وإذا كانت هذه ليست المرة الأولى منذ تعليق حرب تموز التي تتصاعد فيها الحرب الكلامية، لكن الظروف الآن مختلفة عن الأحد عشر عاماً الفائتة. أولاً، بوصول ترامب إلى البيت الأبيض، وموقفه في الموضوع الإيراني، وموقفه الأخير بشأن المسار التفاوضي والمسألة الفلسطينية. وثانياً، نظراً الى طبيعة التركيبة السياسية اللبنانية الحالية، وكذلك في ضوء مسار «ما بعد حلب» في سوريا، الذي يميل عموماً الى تحجيم دور «حزب الله» فيها، أو أقلّه، لجعل هذا الدور أقل حيوية من الأوقات السابقة.
يضع هذا تحدياً جدياً على لبنان. كيفية الإفلات من أنّ تحوّله مصيدة لـ«تجريبية» ترامب غير واضحة الملامح بعد، والتي لا يعرف بعد أين ستضرب، وكيف ستضرب، وهل ستضرب، وهل مقدّر أساساً لترامب الإستمرار بثقة في كامل المسار الذي ينتهجه؟ وكيفية الإفلات من تخمة «الخيال العلمي» التي بادر اليها الأمين العام لـ «حزب الله» مؤخراً، حول النووي والأمونيا والسلاح المجهول الذي يخبئه وكل هذه اللازمة، التي إن كان الغرض منها الحرب الكلامية أو النفسية، فهذا شيء، وإن كان الغرض منها التأسيس عليها، كما التأسيس على طلب سابق لمسلحيه للتحضر لاقتحام الجليل، فهذا شيء آخر تماماً. الحرب الكلامية الحالية هي جزء من سياق اقليمي وعالمي لم يعد شبيهاً بذاك الذي عهدناه في الأعوام السابقة. وهذا السياق يفرض أعباء عالية الخطورة على لبنان إن هو لم يستطع بمؤسساته وجماعاته أن تكون له كلمة في ما يجري، أقلّه لجهة رسم حد فاصل بين الحرب الكلامية، وبين الحرب التطبيقية لما يساق في الكلام من وعود، وما يكابر عليه هذا الكلام، من إنعدام توازن بين دولة صناعية معادية، وبين مجتمع غير صناعي ويعيش أزمة خيارات وطنية رئيسية، منها ما يتصل بمفهوم الدولة المؤطرة له.
ليست هي المرة الأولى التي يعتبر فيها السيد حسن أن المسار التفاوضي قد مات. لكن يبدو أنها المرة الأولى التي يكون قد مات إلى هذا الحد، إلى حد تحلل أميركا من «التزامها» بمبدأ «حل الدولتين». بقي أنّ ثمّة مسارا يميل إلى تسويق مبدأ المماثلة بين «داعش» وبين «حزب الله»، اسرائيلياً ثم أميركياً، في اختلاف كامل على هذا الصعيد عما ساد مرحلة اوباما من مقاربات. بين «حزب الله» واللبنانيين الآخرين مصلحة مشتركة اليوم في الحيلولة دون تمادي تسويق مبدأ المماثلة هذا، لكن لـ«حزب الله» ما يتوجب فعله إن أراد فعلاً الإسهام في إعاقة تسويق هذه المماثلة، بما يمكنها أن ترتد لاحقاً، من توازي حربين، واحدة ضد «داعش» وثانية ضد الحزب، تكون عملياً ضدّ لبنان واللبنانيين. بطبيعة الحال، «حزب الله» لا يزال مكابراً على هذه النقطة، ويعتبر أن مقاومته في حل من الاجماع الوطني، ولا تبحث عنه ولا تستمد شرعيتها منه. إلا أنّ هذه المكابرة كانت تتحرك بفضاء أكثر رحابة لها في المرحلة الماضية. اليوم، صارت كلفة هذه المكابرة أكثر، للحزب ولأخصامه الداخليين على حد سواء.