لا تعارض إسرائيل، ولا «حزب الله «، مبدأ التوصل إلى تسوية على الحدود البرية. فالطرفان اختبرا قبل عامين تسوية ناجحة على الحدود البحرية، ما زالت صامدة على رغم الحرب الدائرة على بُعد كيلومترات في البر.
يروي العارفون، أنّ التسوية على الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل كانت جاهزة بخطوطها العريضة في الصيف الفائت. وقد حاول الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين إطلاق المفاوضات لإنجازها بكاملها وإبرامها. لكن هذا المسعى أحبطه اندلاع الحرب في غزة. واليوم، تَقبع التسوية بخطوطها العريضة في جيب هوكشتاين، ولا ينقص لإعلانها سوى انتهاء الحرب هناك، ومعها الحرب الرديفة في الجنوب.
وفي تقدير البعض، أنّ هذا الاتفاق الضمني والمبدئي على تسوية، هو السبب الأساسي لاطمئنان هوكشتاين إلى أنّ الطرفين على الحدود في الجنوب سيتجنبون توسيع الحرب. وفي زيارته الأخيرة للمنطقة، هو اختبر الاستعدادات الفعلية لدى المعنيين بالتورط في حرب واسعة، فوجد أنّ إسرائيل تهدّد بتوسيع الحرب في لبنان لا للقيام بذلك فعلاً، بل للدفع نحو المفاوضات. كما أنّ «حزب الله» يستعرض قواه على مداها على الحدود وفي العمق الشمالي لإسرائيل، لا من أجل حرب واسعة بل لمنع إسرائيل من التورط في أي مغامرة.
وهذا الاطمئنان هو الذي يسمح للوسيط الأميركي بالتغيّب عن المسرح في هذه المرحلة. فهو يعرف أنّ التهويل لا يُنذر فعلاً بانفجار حرب واسعة. ولكن في المقابل، بات واضحاً أنّ «حزب الله» ليس في وارد الانتقال بالوضع الجنوبي إلى مرحلة الهدوء والاتفاقات الأمنية والاستقرار ما لم تدخل غزة أيضاً في هذه المرحلة.
إلّا أنّ عاملاً مهمّاً بدأ يفرض نفسه على الجميع، وهو المسار الذي يُرتقب أن تسلكه الانتخابات الرئاسية الأميركية. فبعد أشهر قليلة، سيتبدل المشهد في البيت الأبيض، حيث يتوقع غالبية المحللين فوز الرئيس دونالد ترامب. وعلى الأرجح، من مصلحة بنيامين نتنياهو أن يراوغ لبلوغ تلك اللحظة، لأنّه يتوقع أن تأتي التسويات في عهده أكثر رجحاناً لمصلحة إسرائيل. وعلى العكس، يُعتقد أنّ محور إيران ـ «حزب الله» يفضّل تحقيق تسويات قبل نهاية عهد بايدن، بدءاً بغزة. وهذا يتقاطع مع رغبة إدارة بايدن. لكن نتنياهو سيقابل هذا التقاطع في المصالح بالمماطلة والتعطيل. وفي الخطاب المقرّر أن يلقيه في الكونغرس، في 24 من الجاري، سيراهن على استجماع أكبر دعم أميركي جامع للحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، من الحزبين الديموقراطي والجمهوري.
وفي الأسابيع الأخيرة، أظهرت «حماس» ليونة لافتة لتسهيل الاتفاق على وقف للنار وتبادل للرهائن والأسرى في غزة. ولكن، لا فاعلية لهذه الليونة، لأنّ نتنياهو لا يرغب في إنهاء الحرب، بل في إطلاق الرهائن الإسرائيليين ورفع الضغوط المعنوية عنه في الداخل. وبعد ذلك، هو سيواصل القتال وفق «الأجندة» القاضية باجتياح غزة وتدمير معظمها وتهجير قسم كبير من سكانها. وتنفيذ هذه الخطة يقتضي استمرار الحرب أشهراً أخرى أو سنوات.
وخلال هذه الفترة، سيسعى الإسرائيليون إلى وقف الاستنزاف على حدودهم الشمالية مع لبنان. وهذا الأمر يستحيل تحقيقه بالعمل الديبلوماسي، لأنّ أحداً لا يستطيع إقناع «حزب الله» بالتوقف عن مساندة «حماس» في قتالها في غزة.
إذاً، الجميع يصارع الوقت، ولكن تحت سقف مضبوط، ولا أحد مستعد لتحمّل أكلاف المغامرات. وتسود الخشية بعض الأوساط من استغلال نتنياهو زيارته الأميركية لكي يحصل على دعم لخطوة معينة في لبنان.
ففي تقدير البعض، هو قد يضع لبنان بين خيارين: إما أن يتحمّل تبعات الحرب الواسعة الشاملة والمدمّرة، وإما أن يوافق على وقف النار ويبرم مع إسرائيل تسوية حول الترتيبات الأمنية في الجنوب، ولو بقيت الحرب مندلعة في غزة. والخياران مريران ويصعب على لبنان تقبّلهما.
والسيناريو الذي يخشاه البعض هو أن يحصل نتنياهو على تغطية للقيام بصدمة عسكرية خاطفة في لبنان، يطمح من خلالها إلى إحراج «الحزب» ودفعه إلى التفاوض وقبول التسوية، ولو كانت الحرب في غزة مستمرة. ووفقاً لهذا التصور، قد يقوم الإسرائيليون بتسديد ضربات إلى لبنان تجبره على القبول بالمفاوضات حول وقف النار والترتيبات الأمنية، يمكن أن يُستتبع بتسوية على ترسيم الحدود البرية.
ويعتقد عدد من المحللين، أنّ نتنياهو لن يحصل من الولايات المتحدة على أي تغطية لشن حرب واسعة على لبنان. ولكنه قد يقنعها بأنّ صدمة عسكرية معينة ربما تكون مفيدة سياسياً، لأنّها تدفع إلى وقف أسلوب المشاغلة، وتسمح بفك الارتباط بين الجبهتين في لبنان وغزة، وتالياً إطلاق المفاوضات حول الترتيبات الأمنية ثم ترسيم الحدود البرية.