هي المرة الرابعة التي يخطب فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أمام مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، وهي سابقة لم يحظ بها أي مسؤول غير أميركي قبل الآن.
ويزور نتنياهو العاصمة الأميركية وهو أقل قلقاً ممّا كان عليه طوال الأشهر الماضية. ذلك أن آخر استطلاعات الرأي منحته تحسنا جديدا حيث نال الليكود 21 مقعدا في مقابل تراجع حزب غانتس الى 23 مقعدا، وذلك إثر عملية استهداف محمد الضيف.
وليس ذلك هو السبب الوحيد لتراجع منسوب القلق لدى نتنياهو، بل خصوصا الوضع الإنتخابي الكارثي الذي بات يعيشه غريمه الرئيس الأميركي جو بايدن. ففي المكتب البيضاوي سيجلس نتنياهو ليواجه رئيساً ناصَبه العداء دائما ولو تحت سقف حماية إسرائيل، ولكنه بات على مشارف السقوط وبضربات موجعة من داخل بيته الحزبي. وهو ما يعني بأن الضيف الإسرائيلي ما عاد مضطرا للصراع بأقصى ما لديه ليمنع نفسه من التراجع الى الوراء، لا بل فإن المضيف الأميركي بات مضطرا للبحث عن «حبال الهواء» ولو عند نتنياهو لإنقاذ نفسه. وبالتالي لا آمال كبرى تعلّق على زيارة واشنطن رغم تصريح وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن بأننا أمام الأمتار الأخيرة لإعلان قرار وقف إطلاق النار.
في الواقع، وبعد نجاة دونالد ترامب من محاولة اغتياله واكتسابه رتبة «الشهيد السياسي» ما مَكّنه من الإستحواذ على عطف الشارع خصوصاً أنّ ردة فعله كانت ممتازة، فإن معظم العواصم العالمية باتت تتعاطى معه لا كمرشح رئاسي بل كرئيس منتخب. أضف الى ذلك أن تعاطي بايدن مع دعوات الديمقراطيين لإعلان انسحابه من السباق الرئاسي جاء أشد سوءاً من نتائج مناظرته الكارثية مع ترامب. ووفق آخر الإستطلاعات فلقد حظيّ ترامب بـ 46% من الأصوات في مقابل 42% لبايدن و12% لم يحسموا أمرهم بعد. والأهم أن ترامب كان متقدماً في جميع الولايات السبع المصنفة متأرجحة. صحيح أنه ما يزال هنالك بعد حوالى أربعة أشهر فاصلة عن موعد فتح صناديق الإقتراع، وأن هذه الإنتخابات توحي بإمكانية ظهور المزيد من المفاجآت، لكن كفة الميزان «طابشة» بقوة لصالح المرشح الجمهوري. ومن هنا باشَر العديد من العواصم وضع تصوراتها للمرحلة المقبلة في ظل رئاسة ترامب الذي لم يبخل كما عادته في الكشف عن الخطوط العريضة لبرنامج حكمه المقبل. وإذا كانت مقولة ان ما يجري إطلاقه من مواقف خلال الحملات الإنتخابية سيكون آيل للتبدل لاحقاً هي مقولة صحيحة في الإجمال، إلا أن الولاية السابقة لترامب أثبتت أن ما يطلقه خلال حملاته الإنتخابية يعمل على تحقيقه خلال وجوده في البيت الأبيض. ومن هنا الأهمية لكلام ترامب الآن كَونه يؤشّر لما هو ذاهب إليه.
ومن هذا المنطلق شرعت الدول الأوروبية في وضع تصوراتها المقبلة، وهي باتت منقسمة الى ثلاث فئات:
الأولى وفي طليعتها بريطانيا وألمانيا، فهي بدأت تميل للإعتبار بأن ولاية ترامب الثانية ستكون منفتحة على الحوار مع أوروبا، بعدما اتّعَظ ترامب من دروس ولايته الأولى وأصبح سلوكه السياسي أكثر نضجا.
والثانية، وتتزعمها فرنسا حيث يبدو ماكرون أكثر قلقا، ما يجعله يعتقد بأن الوقت حان كي تباشر أوروبا العمل على وضع برامج العمل لحماية نفسها بقواها الذاتية عبر تعزيز أمنها.
وأما الفئة الثالثة فهي التي تميل الى سياسة ترامب والتي أصبحت بأعداد أكبر مما كانت عليه العام 2017، والتي يجسدها رئيس وزراء المجر ڤيكتور أوربان المُرحّب بعودة ترامب وبوقف الحرب في أوكرانيا ولو من خلال الإستجابة للعديد من شروط بوتين.
باختصار، فإن عودة ترامب ستؤدي الى جعل أوروبا أكثر هشاشة رغم أن إدارة بايدن وضعت تشريعات تجعل من الصعب على ترامب الإنسحاب من حلف الناتو.
أما على مستوى الشرق الأوسط فلا تخفي أوساط الحزب الجمهوري بأن ترامب وضع خطة تطال مستقبل المنطقة وسيمضي قدما في تنفيذها، وعلى قاعدة إعادة الإستقرار وبعض الحياة الطبيعية للشرق الأوسط. ومن هنا يمكن تفسير ما ورد في خطاب تَرشّح ترامب حين قال: سأنهي كل أزمة خلقتها الإدارة الحالية بما في ذلك الحرب التي حدثت بسبب الهجوم على إسرائيل، والتي لم تكن لتحدث لو كنت الرئيس، على حد تعبيره. وتابع قائلاً: ايران لم يكن لديها أموال والآن بات لديها. وأضاف: أريد عودة الرهائن وأفضّل أن يحصل ذلك قبل وصولي وإلا فستدفعون ثمنا باهظا.
الواضح أن ترامب يركز على إيران. ويمكن في هذا الإطار إدراج الاتهامات التي وردت في الإعلام الأميركي حول اتهام إيران بمؤامرة لاغتياله. و«صودِف» أن ظهرت هذه الإتهامات إثر زيارة مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي الى واشنطن بعد حصول محاولة إغتيال ترامب بيومين. والاستنتاج هنا واضح: إسرائيل تحضّر المسرح جيدا لدخولٍ عاصف لترامب ضد إيران. وتكفي الإشارة الى الوصف الذي اعتمده المرشح الجمهوري في وصفه لبايدن، معتبراً إيّاه «فلسطينيا سيئا».
في المقابل، تتعاطى إيران وكأن بايدن أصبح «شهيدا» سياسيا، وبات عاجزا عن الحراك لإنجاز أي تسوية. ما يعني أن المفاوضات غير المباشرة عبر سلطنة عمان لم تعد ذي فائدة. لذلك رفعت طهران من سقف مواقفها بعد أن كانت قد وجّهت رسائل ودية من خلال إيصال بزكشيان الى الرئاسة وهو يحمل دعوات لتسويات مع واشنطن تسمح بإزالة العقوبات عن اقتصادها.
وتزامن ذلك مع عودة الهجمات على قاعدة عين الأسد الأميركية في سوريا عبر مسيرات «مجهولة» لم يتبنّها أحد، بعد فترة طويلة من الهدوء. وفي الإطار عينه لفت أيضا نفي أمين عام «حزب الله» وجود أي تفاهمات مع مستشار الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين حول مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، واصفاً إيّاها بتبادل الأفكار لا أكثر. وهذا الكلام الذي صدر الآن رغم إدراجه في التداول منذ أشهر عدة يمكن تفسيره أيضا بأنه في إطار قطع الأمل من أي إنجاز مع رئيس على حافة السقوط. وبذلك تصبح الصورة أقرب الى إعادة خلط الأوراق، خصوصاً أنّ حوثيي اليمن دخلوا على المشهد من الباب العريض.
وقبَيل نجاح الحوثيين بتحقيق ضربة صاعقة عبر الوصول بمسيّرة الى قلب إسرائيل والى مكان لا يبعد كثيرا عن مبنى السفارة الأميركية، سرّبت الأوساط الأمنية الأميركية معلومات باتت تملكها بأنّ روسيا وضعت خطة لتزويد الحوثيين بصواريخ متطورة مضادة للسفن في حال استمرت واشنطن بتسليح أوكرانيا.
كل هذه الصورة الملبّدة توحي حتى الآن، وإذا لم تطرأ تبدلات، بأن الأشهر الأربعة المقبلة لن تشهد التسويات السياسية التي جرى التعويل عليها. فبايدن بات مشلول الإرادة وعلى حافة السقوط والرحيل بانتظار حسم إسم المرشح الذي سيخلفه. وحتى لو بقي بايدن في السباق، فسيتعزز فوز ترامب ليطال اكتساح الجمهوريين لمجلسي النواب والشيوخ، ما سيُطلق يديه أكثر. وفي حال بقاء الصورة على ما هي عليه فإن من مصلحة نتنياهو إبقاء ساحات الحروب مفتوحة خاصة في غزة وجنوب لبنان مع رفع منسوب الحماوة بعض الشيء، وانتظار دخول ترامب المكتب البيضاوي، لأنه وضعَ الشرق الأوسط في أولوية تحركاته الخارجية، ولكن هذه المرة بعد تسليف بوتين إقفال الحرب في أوكرانيا، ورد التحية للإئتلاف اليميني الإسرائيلي الذي عرقل كل الحلول التي طرحتها إدارة بايدن، منعاً لمنحها ورقة يمكن استثمارها انتخابياً. وكان بن غفير واضحا وصريحا حين قال بوضوح لنتنياهو ان قبول وقف إطلاق النار سيشكل طعنة في ظهر ترامب.
لكن ثمة ملاحظتين أساسيتين لا بد من وضعهما في الحساب. الأولى، أن فترة الأشهر الأربعة هي فترة طويلة نسبيا وقابلة لأن تكون حبلى بالمفاجآت. خصوصا أن الحسابات لها علاقة بمصالح كبرى ومسار دولي جديد.
والثانية، أن «الأشباح» التي تقف خلف محاولة إغتيال ترامب تبدو نافذة وقادرة وفاعلة. وبالتالي فهل ستقف هذه «الأشباح» مكتوفة اليدين طوال الأشهر المقبلة؟ والمقصود هنا ليس بالضرورة تكرار محاولات الإغتيال والتي أصبحت أعقد وأصعب، بل مفاجآت من نوع آخر ربما. فالمعروف أن القوى الضخمة التي تحارب طموح روسيا في أوكرانيا وتعوّل على تعزيز الناتو ووحدة أوروبا وفي الوقت نفسه تؤيد التوازن السلبي بين إيران ودول الخليج، تعارض بقوة وصول ترامب.