تحوّلات الشهرين الأخيرين تطاول كل شيء
في حجرنا المنزلي فيروس جديد دخل حياتنا، فيروس إلكتروني جعلنا نأكل ونشرب ونتعلّم ونتبضّع ونلهو إلكترونياً. فيروس لم نكن مستعدين للتعامل معه في بيوتنا، فطوّرنا بالممكن دفاعاتنا في وجهه وتسلّحنا بكل ما يلزم للتعايش معه. غيّرنا وجهة الحياة في منازلنا، حوّلنا غرفنا الى خلايا إلكترونية وصار بيتنا Network بكل ما للكلمة من معنى وأبعاد تقنية ومعيشية.
تبدل المشهد في البيت، وتغيّر ترتيبه.الاسلاك السوداء تعبر الصالون أرضاً وجواً وتتشابك مع بعض التوصيلات التي تقتضيها ضرورات إيجاد مخارج الكهرباء المناسبة. على الطاولة التي استحدثت في المكان تصطف مجموعة من الكمبيوترات المحمولة مع بعض الألواح الإلكترونية والى جانبها الـ X BOX مع شاشة تلفزيون كبيرة. في وسطها يتربع سعيداً جهاز الـ UPS (الذي اخذ محل أصحاب المولدات في البيت) لتأمين عدم انقطاع الكونكشين عند غياب التيار الكهربائي.
الراوتر والموديم تغير مكانهما بناء على نصيحة الاختصاصيين وباتا موصولين مباشرة على الكمبيوتر لتقوية الكونكشين مع كل ما يعنيه هذا من تمديدات وأسلاك. الكونكشين هاجسنا كلنا في البيت نسأل عن حالها أكثر مما نسأل عن حالنا وأحبائنا فهي صلتنا الوحيدة بالعالم الخارجي. هي هاجس كل البيوت في زمن الحجر تنافس الرجل على قلب زوجته وتنافس الأولاد في محبتهم لأهلهم.
علي حجازي في بيتنا
في منزلنا كل أمام جهازه، ما لم تضطره الاتصالات المباشرة للإنزواء في غرفة بعيداً عن مصادر الضجة والإلهاء. تسبق الجلسات صباحاً حفلة تعقيم شاملة لكل عناصر النتوورك: لوحات المفاتيح، سماعات الأذن، أزرار الكهرباء، مسكات الكراسي، مقابض الألعاب…
في غرفته ينزوي ابني في إحدى ساعات التجلي الدراسية المباركة. لا أحد منا يجرؤ على العبور أمام باب الغرفة او التفوه بكلمة ولكن مهما حاولنا ضبط النفس تخرج مني أحياناً صرخة لاواعية: شو بدكن تتغدوا اليوم؟ او صرخة استهجان: ليه ما ضبيتوا الأوضة؟ إيماءاته الغاضبة من الداخل تعيدني الى أرض الواقع وتضطرني للاعتذار بصمت، ليسارع بعدها الى صفق الباب بعنف وإكمال المشاورات مع رفاق الأونلاين لإيجاد طريقة لتأجيل الامتحانات الجامعية.
في غرفة اخرى وفيما أستاذ الغرافيك يشرح أحد الدروس التطبيقية عن بعد محاولاً جاهداً ان يفهم ابنتي ورفاقها كيف يجب ان يرسموا هذا اللوغو أو ينفذوا ذلك الكروكي يصدح صوت جوزيف ابوفاضل من غرفة التلفزيون المجاورة، وقد استضافته الـ OTV شاتماً المعارضة بأحد أمثلته الراقية…”سَكتووووووووه” تصرخ ابنتي من امام شاشاتها بعد ان تحجب الصوت عن الأستاذ والرفاق. فينصاع الوالد مرغماً لصرخة الاستغاثة ويقلب المحطة فإذا بصوت علي حجازي على NBN يتفوق على كل ما في الحي من أصوات وعلى كل من في المحطات على اختلافها من ضيوف…دون أن يثني هذا الزوج عن المثابرة على متابعة كل برامج التوك شو الصباحية على كافة المحطات بصوت منخفض…
“ماري بتهجي وبتعيد…”
في خضم صراعي لأشرح لأحد طلابي الأجانب الذين يدرسون اللغة العربية عن بعد، معنى الأفعال الرباعية مثل: نَيشَن ونَقود وصَفرَن، يرتفع من الشارع امام بيتنا هدير صهريج وهو يحمل نقلة مياه الى البناية المقابلة وأزيز الطلمبة وهي ترفع المياه نحو الخزّان. ربع ساعة يستحيل فيها سماع اي صوت آخر. أغلق الأبواب والنوافذ وأحاول جاهدة أن اشرح لطالب من كاليفورنيا سر الضجة في الخارج… يمر قطوع الصهريج، وفيما أنهمك بشرح الفرق اللغوي بين “سامع وعم يسمع وكان رح يسمع” تعلو تراتيل الجمعة العظيمة من بيت الجيران بعد أن دب فيهم فجأة التقوى عن بعد…فنعود الى المربع الأول وأعيد الشرح من جديد مستذكرة زياد الرحباني: “ماري بتهجي وبتعيد…”
من إحدى الغرف يرتفع فجأة صوت صارخ: ليه ما في كونكشين ؟؟؟ فنطبّ جميعاً على الراوتر لنرى ومضاته وسبب تراجع اضوائه الى واحد بدل الأربعة. نتشاور في الأمر ونرتئي ان نريحه قليلاً. نطفئه لنعيد تشغيله بعد دقائق. خلال هذا الوقت العصيب تتجمد الصور على الشاشات وتتحجر ملامح الاشخاص في المقلب الآخر وتعابير وجههم: فم مفتوح على آخر حرف، عين ذابلة تسعى عبثاً للتأكد مما يجري…بانتظار عودة الحياة الى الشاشة.
قطوع آخر يمر علينا ثقيلاً في اليوم: انقطاع الكهرباء في غير موعدها فيصرخ كل منا من وكره: حولوا كهربا…ثم نهرول جميعنا ونسابق بعضنا البعض في الكوريدور الضيق لنصل الى “الهاوس” نرفعه او ننزله بسرعة قبل أن تنقطع الكونكشن.
حياة على وقع الكونكشين
نعيش يومنا على وقع كونكشين مزاجي، يصيب تارةً وطوراً يغيب وتغيب معه كل جهودنا في متابعة حياة شبه طبيعية، يكثر من غيباته ويبطئ في طلاته. نتصل بالشركة المقدمة لخدمات الانترنت لنستخبر عن اسباب بطء الكونكشين. محاولات الاتصال الكثيرة تبوء بالفشل: مجيب آلي يطلب منا الاتصال لاحقاً نظراً لشدة الضغط على الاتصالات. نعاود الاتصال مراراً وتكراراً الى أن يستجيب الله دعواتنا ويستجيب أحد التقنينن في الشركة لاتصالاتنا. عن بعد يجري التقني المختص معاينة لكل الوصلات في البيت ومخارج الخطوط الهاتفية، يكتشف سبب البطء في الكونكشين: إنه الخط الهاتفي في منطقتنا لا يتحمل السرعة الزائدة. نسأل عن الحل؟ محاولة الحل تتطلب الاستثمار في باقة جديدة أغلى سعراً من السابقة تؤمن كمية لا محدودة من الميغابايت وسرعة مقبولة تسمح بالعمل والدراسة من البيت. نوافق على الفور فالوقت ليس للحسابات الضيقة والدقيقة ونأمل خيراً. الكونكشين في زمن الكورونا أهم من الأكل والشرب.
الهواتف المحمولة في البيت، لا تستريح ولا تستكين ولا يتعطل شغلها تتنقل بين الواي فاي و3G بسلاسة قل نظيرها مثل بعض السياسيين في لبنان. في فترة قبل الظهر تحشر نفسها وسط ساعات العمل والدراسة، تسترق الوقت لصبحية او تعليق او نظرة على الفايسبوك. وتتحول الى خطة بديلة في حال انقطع الواي فاي عن كمبيوترات البيت فيحل الواتساب فيها محل سكايب وزووم وميكروسوفت تيم. أما في أوائل السهرة فتصبح الهواتف اصابع جديدة متصلة بالأيدي، نشرب القهوة، نمسك السندويش، نحمل الريموت بيد والهاتف باليد
” يسعد مساكم…”
مساء تتغير الصورة، ترتاح كمبيوترات العمل والدراسة لتترك المكان شاغراً لنتفليكس تحتله بلا منازع، بعد أن غابت المحطات اللبنانية عن المنافسة وباتت برمجة معظمها قديمة، مجترة او تعتمد على بعض برامج التوك شو المبكية او مسلسلات النواح الممغوطة… معاً نختار فيلم السهرة وتبدأ الإجراءات لوصل الكمبيوترعلى التلفزيون وتعود الأشرطة والأسلاك لتكون ضيفاً ثقيلاً في غرفة الجلوس. تلفزيوننا ليس ذكياً، بل يكاد يكون غبياً، مسطحاً غير متصل بالانترنت، لكننا نصر على ضخ بعض الذكاء الاصطناعي في أحشائه القديمة. نصله بالكمبيوتر لكن الصورة تبدو عريضة مشوهة تحتل جزءا من الشاشة وتترك الباقي اسود كسواد ليالينا في زمن الحجر. نعد أنفسنا بشراء جهاز ذكي ما إن ” تتحسن الأحوال” ويُفكّ اسرنا. عند منتصف الليل تتوقف كل حركة على الشاشة، فالوقت قد حان ليبدأ “أبوملحم أو يسعد مساكم” على شاشة TL…نصطف جميعنا كباراً وصغاراً على الكنبات لننتقل بالزمن الى ماضٍ سعيد نصغي فيه ( لأننا بالكاد نراه) الى حكم “أبوملحم” يتلوها علينا بجدّ ونترحّم على أيام ما عرفنا قيمة طيبتها إلا بعدما ذقنا 2020 ومرارتها…