“ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة
نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية”
محمود درويش
أتابع في هذه الأيام مباريات بطولة العالم في الجودو التي تجرى على مدى الأسبوع في مدينة طوكيو، تلك العاصمة التي أحرقها جنون العظمة في نهايات الحرب العالمية الثانية وسقط فيها في ليلة واحدة مئتا ألف قتيل، وقعوا تحت مطحنة الطائرات الأميركية. تلك اليابان، اعتقد قادتها أن جنسهم أنقى من باقي أصناف العرق الأصفر، فانطلق العسكر الإمبراطوري في حملة تطهير عرقي لكل ما كان حول الأرخبيل الذي حمى أمبراطورية الشمس المشرقة على مدى قرون عدة.
كل ذلك أصبح من الماضي الآن، ولم يعد أحد يذكر الأمبراطور هيروهيتو ولا الماريشالات يماموتو و توجو وياماشيتا الذين قادوا المذابح والجنون العنصري النابع من عمق الأساطير القومية والوطنية. يذكر الناس اليوم فقط سيارات الهوندا والتويوتا، والصناعة المتقنة والإخلاص في العمل الذي انتشل ذاك البلد من تحت رماد البيوت الخشبية والغبار النووي، ليصبح إحدى الدول السبع الكبرى. إرث اليابان الثقافي والرياضي كان أيضاً لعبة الجودو، فن القتل الذي تحول إلى مجرد لعبة أولمبية يتنافس فيها كل البشر.
لكنني لم أتمالك نفسي، رغم ادعائي الموضوعية في تقييم اللاعبين، إلا أن أشعر بالأسى وأنا أشاهد كيف تحول الفريق الإسرائيلي من شبان وفتيات إلى حد أصبح فيه من الفرق الأقوى في العالم، وكنت في كل المباريات أتمنى أن أرى اللاعبين الأعداء مهزومين، على الأقل كتعويض على فشلنا في هزيمة دولتهم! لكنني، وبكل أسف على حالي، كنت أشعر بالشيء ذاته تجاه أفراد الفريق الإيراني، وبغض النظر عن اللاعب المقابل. لحسن الحظ أن اللاعبين الإسرائيليين لم يلتقوا على حد علمي في أي من المباريات، وذلك لقرار إيراني بمقاطعة إسرائيل. أقول لحسن الحظ لأنني في تلك الحالة علي أن أختار إلى من أنحاز، وأنا وإن كنت واثقاً من موقفي منذ عقد من الزمن بأنه سيكون حتماً مع أي لاعب يتبارى ضد العدو، لكنني اليوم غير واثق إلى أي من العدوين أنحاز، أم أعلن الحياد، أم أتجاهل الإثنين؟
في الجزء الثاني من الحرب العالمية الثانية، انقلب هتلر على ستالين، بعد أن تشاركا في احتلال بولندا سنة 1939 ونكلا وذبحا البولنديين، كل منهما على طريقته. لو كنت بولندياً وكان علي أن أختار بين الروس والألمان في حصار ستالينغراد أو بعدها في اقتحام برلين، لقلت على الأقل: “فخار يكسر بعضه”!
لو كنت عربياً عالقاً ما بين سندان الروم ومطرقة الساسانيين الفرس سنة 627 في حربيهما على أرضي وبشعبي (المناذرة والغساسنة)، فهل كان علي أن أختار طرفاً أدعمه دون الآخر، أم أدعي الحياد بينهما وأنا أتمنى الموت لهما حتى أرتاح، أم أثور كما فعل عمر بن الخطاب على الإثنين؟
بكل موضوعية، أشعر اليوم أننا عالقون بين مطرقة الأميركي وحلفائه وأتباعه وسندان الإيراني وحلفائه وأتباعه، والحرب تدور على أرضنا والبيوت المدمرة بيوتنا والإقتصاد السقيم هو رزقنا، والشهداء الذين يسقطون بإرادتهم أو بعامل الصدفة هم أبناؤنا. لكل ذلك لن أدخل في حفلة النفاق وجنون العشق الموسمي للمقاومة! فبالنسبة لي، كل مواقع “حزب الله” في لبنان وسوريا والعراق واليمن هي أراض يحتلها أبناء بلدي لحساب بلد آخر يعتدي على أمني واقتصادي وبيتي، في حين أن طهران لم تسقط عليها مفرقعة واحدة، ولا حتى انطلقت منها مفرقعة باتجاه إسرائيل. وهنا ليس من الجائز الإحتجاج على وجود نية انتاج صواريخ في لبنان لردع العدو، لكن الفضيحة المحزنة هي أن تكون هذه الصواريخ التي يدعي العدو وجودها لا علم للدولة الشرعية في لبنان بوجودها، وإن وجدت، فلا دور للسلطة الشرعية بإدارتها، مع تفهمي لإعلان رئيس الجمهورية دعمه للمقاومة، لكن هل للمقاومة الرغبة أو النية في دعم من دعمها بوضع سلاحها تحت إمرته؟ المحزن حقاً هو قرار البعض في الاستمرار في الرهان على حياة شبابنا للصمود والموت دفاعاً عن أسطورة نابعة من عمق التاريخ، لقتال أسطورة تشبهها شكلاً ومضموناً أسست لاحتلال فلسطين، في حين أن أسطورة إيران تحتل اليوم أرضاً تعادل خمسين مرة مساحة فلسطين.
حسب وثائق بيزنطية قديمة، وبعد حرب طاحنة أنهكت الفرس والروم، كانت هناك مملكتان على أطراف شبه الجزيرة العربية، المناذرة (اللخميون) والغساسنة بعد أن قررتا وقف مفاعيل خدمتهما الطويلة لحساب الأمبراطوريات المتنازعة، فاتحدت المملكتان ومن ثم بدأ الفتح.