ألهذا الحد تتخذ كلمة «الحياد» مفهوما خارجا عن التوافق اللبناني العام؟ لماذا اعتبر هذا التعبير لدى بعض اللبنانيين الكلمة الغمّازة اللمازة التي استدعت كل هذا الإستهجان والنفور حتى إذا ما استطلعنا بعض ما أوردته الكلمات الشاذة النابية من أقوال لا تسيء فقط إلى مصدر مطالب الكاردينال الراعي، بل إلى جموع اللبنانين الذين أطبقوا على هذا الموقف الإنقاذي لهم وللبنان بعد أن غطسنا جميعا في قعر سحيق لا يبدو أن لنا مهربا منه ومن معاناته وأوجاعه ونتائجه الكارثية على وجود وصمود هذا الوطن في فرصة قريبة قد تكون وقد لا تكون.
عنينا بذلك بوجه خاص تلك الكلمات التي تنطلق من خلال هجمات الجيوش الإلكترونية ومؤيديها ومعاونيها وموجهها، فإذا بها تندفع في الهجوم على مبادرات البطريرك الراعي وكل من واكبه وأيده وسار على خطاه، وحقيقة القول أن الغالبية المطلقة من اللبنانيين قد تموضعوا في موقف المؤيد، حفاظا على بلدهم وعلى أنفسهم وعلى ابنائهم وعلى مصيرهم وعلى نمط عيشهم الحضاري وعلى وجود هذا البلد المهدد بالإنهيار الكامل.
بعض المواقف المرجعية أخذت على مؤيدي الدعوة للحياد بأنها معادية للمقاومة وجموع الممانعة، وأن أخذنا الموقف المقاوم والممانع والمتداخل مع المنهجيات الإيرانية هو واجب الجميع كائنا ما كانت نتائجه التي بتنا نغوص في هذه الأيام المظلمة في عز أوجاعها وتدهورها، متجاوزين في مطلق الأحوال بقية الكلمات المؤسفة التي طاولت مواقف اللبنانيين، بغالبيتهم الكاسحة، يوم وقفوا جميعا موقف المقاوم وكان لهم نصيب كبير في تحمل أذى العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي تعاونت قوى وطنية عديدة على ردع جنوحه وجنونه، وكان للبنان بالنتيجة نصر وطني شامل، كانت له نتائجه الكاسحة على مدى الوطن بأسره، وتجاوز اللبنانيون آنذاك قولا قياديا مشهورا: لو كنت أعلم؟!، وكانت للعدوان آثار ودمار، عمدت الدول العربية الشقيقة إلى لملمة نتائجه الكارثية، مثبتة أن الشقيق وقت الضيق، وأن ردع العدوان ولملمة آثاره واجب قومي قامت الدول العربية، والخليجية بالتحديد، بمسح آثاره وإعادة الأحوال إلى أساسها وعمرانها. في تلك الفترة … كانت المقاومة، محصورة الجهد والكدّ والنشاط، بشؤون المقاومة والحفاظ على لبنان أرضا وشعبا ومؤسسات، ولم تكن قد توجهت كليا إلى الخارج حيث طاولت بنشاطها القتالي، أوطانا أخرى ومواقع تصادمية لا شأن لها بلبنان، ولم تكن المقاومة مرتبطة بوضوح كلي بإيران حيث صرّح كبار مسؤوليها بأن المقاومة تأكل وتشرب وتتسلح وتقاتل بالمال الإيراني وبارتباط كامل بتوجيهات الولي الفقيه، وكان ذلك بالنسبة إلى مناهجها وتوجهاتها، أمر طبيعي لا تؤاخذ عليه ولا تُلام.
ولبث الحزب يناور ويتشاطر داخليا مدعوما بتيار لبناني استعمله قناعا يستر به خفايا وخبايا شؤونه وشجونه ومطامحه، حتى وصل إلى مواقع السلطة بالكامل متسلحا بما استحصل عليه وفرضه من «تغطية مسيحية» جزئية، تعاني حاليا شيئا من الإهتزاز والتلكؤ نتيجة لتطورات الأحداث واحتمالات الأخطار وتحولات الرأي العام، وبات لبنان المطلّ الأساسي الممانع، ومع الوقت تم تدفيعه أغلى الأثمان، حيث فقدنا نظرة «الأخ العزيز» إليه من أخوته العرب ونظرة الصديق المبدّى والمفضل لدى غالبية المجتمع الدولي، ولنا في امتناع الأخوة العرب عن مجرد الزيارة للمسؤولين اللبنانيين ورفضهم لاستقبال المسؤولين الجدد من أركان الوزارة الجديدة والتوجهات المستجدة، ولنا في ثورة الفرنسيين على النهج اللبناني الفاسد والرافض لإجراء أي إصلاح يفتح الباب عريضا لاستقبال العون الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا، وها هو وزير الخارجية الفرنسي يطلق الصوت عاليا من مجلس الشيوخ الفرنسي وعلى الأرض اللبنانية خلال لقائه للمسولين اللبنانيين عند قدومه إلى لبنان، كل ذلك يعتبر أوضح دليل على تردي الأحوال اللبنانية إلى هذا الدرك الذي أوصلتنا إليه سياسات غريبة الأطوار، مرتبطة بكليتها بنهج غريب متمثل بمطامح أمبراطورية سالفة يبدو أنها أصبحت «موضة» هذه الأيام اذا ما واكبناها بمطامح وتصرفات بقايا الأمبراطورية العثمانية ورغباتها المتجددة والمتمدّدة إلى المدى العربي بأسره، دون أن ننسى تصرفات الأمبراطورية الفارسية التي تتسلح بالتمذهب لتستولي على الدول والأراضي والثروات العربية، مستغلة ما أصابها من تفكك وتخلخل .
مسكين هذا «الحياد» (أو ما شئنا له من تسميات) الذي تواجهه ممانعات متخفية بقناعات بعيدة المسافة والمدى والغايات، ولكنه حياد لا بد من تحقيقه على الأرض اللبنانية، إنقاذا لها من السقوط المريع.