IMLebanon

الكيانيّة والحياد ولبنان

 

 

 

لا يمكن بعد اليوم أن يستمرّ لبنان كما كان عليه، أي بالصيغة نفسها من دون أن يتمّ تطويرها. وما لم نفهم حقيقة وجود لبنان أمس واليوم لن نستطيع بناء لبنان الغد. وإن لم نطوّر الصيغة اللبنانية التي ورثناها عن الآباء والأجداد، فهذه الصيغة لن تخدم الأبناء والأحفاد. لكن ما هي هذه الأسس التي يجب بناء الصيغة اللبنانية الجديدة عليها؟ وهل من إمكانية لتطبيقها؟

 

بُنيَ لبنان نتيجة تراكمات تاريخيّة حضاريّة والدليل ذكره أكثر من سبعين مرّة في الكتاب المقدّس الذي يعتبر مصدراً تاريخيّاً، أرّخ لفترة وجود لبنان في العهد القديم. وهذا الوجود مرتبط ببعدَين: البعد الجغرافي أوّلاً، والبعد الإنساني ثانياً. وهذان البعدان بدورهما شكّلا الأساس الكياني للوجود اللبناني. وهذا ما اصطلحت على تسميته في أبحاثي وكتاباتي السابقة بـ «الكيانيّة اللبنانيّة». وشرحت هذا المصطلح في أكثر من مقال ولكن هذه المرّة نقارب هذا المصطلح من حيث البحث عن كيفيّة تطبيقه ليؤمّن ديمومة الوطن اللبناني.

 

وممّا لا شكّ فيه أن المراحل التاريخية التي مرّ فيها الوجود اللبناني، وعبر التراكمات المقاومتية للحفاظ على الفكرة الكيانيّة لهذا الوطن، أدّت كلّها إلى تكريس هذه الكيانية في كيان مؤسساتي وجغرافي واضح للمرّة الأولى في العام 1920. وتمّ تثبيتها في إطار مؤسساتي بعد الإطار الجغرافي في العام 1926 مع إعلان دستور «ميشال شيحا» الذي تمّ وضعه استكمالاً للفكرة الكيانية التي قام على أساسها الوطن اللبناني الجديد.

 

استخدم الدكتور شارل مالك هذا المصطلح في كتابه «المقدّمة سيرة ذاتيّة فلسفيّة» ليعبّر بواسطته عن فعل الكينونة، مستمدّاً فكرته من أسس الفلسفة الوجودية للفيلسوف الألماني «هايديغر». فالموجود يحتاج إلى موجِد أمّا الكائن فلا يرتبط بموجِد أو واجد لأنّه كائن بذاته. فالأنا الكياني لا يحكم بنظرة أبريوريّة على الأنت أي الآخر. فهو يبرز كما هو أنت الآخر تبرز كمن أنت. تترَكُ النظريّات المسبقة ويُنظَرُ ببساطة إلى الوجود بالفعل، لأنّ تراكيب كياني كإنسان هي نفسها تراكيب كيان أيّ شخص آخر.

 

ومن البوابة الفلسفية للمصطلح ولجت البوابة السياسية لأنّ لبنان وُجِدَ بذاتِهِ. ولم يحتَج لأيّ واجِد. والطبيعة بفعل كيانها المثبَت عمليّاً بعناصرها الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب ثبّتت لبنان بفعلها في هذه الأرض. لذلك لم يكن ليوجد هذا الوطن الفريد في العالم في غير هذه البقعة من الدسكرة. ومن هذا القبيل تصحّ تسمية الكيانية اللبنانية لهذه الحالة السوسيو- بوليتيكيّة التي طبعت هذا الشعب في هذه الأرض.

 

ومن هنا، نفهم تمسّك اللبنانيّين بوطنهم ورفضهم في تاريخهم الحديث استبداله بأيّ بقعة أخرى في العالم. أو حتّى التنازل عنه لأيّ شعب آخر. وهذا ما أشعل فيهم روح المقاومة اللبنانية منذ بداية هذا الوطن. وبعد تجارب التاريخ المرّة التي قاستها الشعوب التي استوطنت في هذه الأرض عبر التاريخ، لم يتمكّنوا من الإنصهار والتحوّل إلى شعب واحد، شعب كياني، تماشياً مع مفهوم الكيانية اللبنانية؛ لذلك لم نستطع تأمين ديمومة استمرار الاستقرار في الوطن اللبناني.

 

والدليل في ذلك أنّ مجموعة هذه الشعوب بقيت مرتبطة بأصولها الشعبوية؛ ومَن لم يتمكّن من الانصهار في قالب شعبي واحد هو الذي لم يستطع بعد حتّى هذه اللحظة استيعاب فلسفة الكيانية اللبنانية. وهذا ما خلق إشكاليات لبنانية جعلت منها قضية وطنية استحقّت النضال والمقاومة في سبيل الحفاظ عليها، بُغية صون جوهر الوطن اللبناني. وما منع هذا الانصهار هو ذلك الارتباط اللاواعي الذي لم تستطع بعض المجموعات التحرّر منه. وهذا ما منع واحِدِيّة الكيان اللبناني.

 

لهذه الغاية نحن بحاجة إلى مقوّمات دفاعيّة عن هذه الكيانيّة التي قاتلنا مئات السنين لتثبيتها كلبنانيّين أحرار، والحياد أبرز هذه المقوّمات . لأنّه بالحياد وحده نستطيع تحرير كلّ مجموعة حضاريّة ارتضت أن تكون في صلب الكيانيّة اللبنانيّة من الأدران التي حمّلها إيّاها ارتباطها الإنساني الأوّلي. وهذا ما أعاق التقدّم الكياني على البعد الإنساني. وهذه الحقيقة التي يجب الاعتراف بها.

 

من هنا، الكيانية والحياد توأمان لا ينفصلان، لا بل يرتبطان أثيمولوجيّاً. ولا يمكن تطبيق الواحد دون الآخر. وإن لم نثبّت الكيانيّة أوّلاً في أطرها الإنسانيّة – الإنسانيّة لن نستطيع تطبيق الحياد. وإن لم نطبّق الحياد لن نستطيع الحفاظ على الكيانية اللبنانية. ولنا في ذلك شواهد كثيرة مع أكثر من مجموعة حضاريّة لبنانيّة. وليس آخرها الإرتباط الكياني- الأيديولوجي الذي يحاول «حزب الله» اليوم أن يأخذ لبنان الكيان إليه.

 

خلاصة القول، الكيانيّة والحياد يتكاملان. ولا يمكن بعد اليوم البحث عن أيّ لبنان نريد لأنّنا نعرف أنّ لبنان الذي يعيش هو لبنان الحياد. وعندما أقول لبنان الحياد أعني بما أقول الكيانيّة اللبنانيّة والحياد. فلبنان يعني اللبنانيّين الذين يشعرون بانتمائهم الكياني إلى هذا الوطن. أمّا أولئك الذين لا يحملون هذا الشعور في صلب كيانهم فعليهم الإلتحاق بمَن يشبههم، لا أن يحوّلوا لبنان إلى ما يشبههم، لأنّ في ذلك فعلاً كيانيّاً لا يملكونه بسبب ارتباطهم وولائهم إلى خارج لبنان.

 

هذه الصيغة التي نريدها للبنان الغد. أمّا النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي فهو لا شيء إلا بقدر ما يُثرِينا كلّنا كلبنانيّين أصيلين أحرار وكيانيين في هذه الأرض ويرفعنا إلى العلاء. فكلّ شيء لا يعني شيئًا إلا بعلاقته. ولبنان لا يعني شيئًا إلا بعلاقة اللبنانيّين الأصيلين فيه. وبتحريرهم فكريًّا وروحيًّا يتحرّرون من أيّ ارتباط كيانيٍّ آخر، وبالتالي ينصهرون كلّيّاً في صلب الكيانية اللبنانية مُحايدين. وإن لم يكن لبنان كيانيّاً ومحايداً… فلن يكون.