Site icon IMLebanon

لا للحياد

 

شكّل الحياد العمود الفقري للنظام السياسي اللبناني والاستقرار السياسي، وفي اللحظة التي سقط فيها الحياد، سقطت فيها الجمهورية اللبنانية في وحول التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية والحروب الساخنة والباردة المستمرة منذ العام 1965 إلى اليوم، وهذا ما يؤكد بأن وصفة الحياد كانت الوصفة المثالية للبنان.

 

ولم تأت فلسفة الحياد من فراغ، إنما انطلاقاً من تعددية المجتمع اللبناني، إذ في المجتمعات التعددية من الطبيعي أن تعتمد الدولة الحياد لاستقرار البيئة المجتمعية داخلها، باعتبار أن لكل فئة توجهاتها السياسية وميولها حيال محاور الصراع الخارجية، وهذه المحاور ليست استثناءً، إنما تشكل القاعدة في عالم منقسم في حروب ساخنة وباردة دائمة ومستمرة.

 

ولأن التكوين اللبناني هو بين المسيحيين والمسلمين، ولأنه كان انشداد الفئة الأولى باتجاه الغرب والفئة الثانية باتجاه الشرق، اتفق على الثنائية الذهبية “لا للشرق ولا للغرب” والتي كانت فعلا ذهبية، باعتبار أن الاستقرار الذي شهده لبنان من بعدها جعل منه “سويسرا الشرق”. وبمعزل عن طبيعة الانقسام الخارجي وتبدلاته أكانت بين الشرق والغرب، أو بين دول الغرب ودول الشرق، فإن المعادلة الثنائية غير قابلة للتبديل، لأن جوهرها قائم على نعم كبرى للبنان أولاً.

 

وقد تبيّن إذاً بالملموس والوقائع والحقائق بأن المدخل إلى الاستقرار السياسي في لبنان هو الحياد، ومن دونه لا استقرار، والحياد يجب أن يكون وليدة قناعة لدى الجماعات اللبنانية على غرار ما كان عليه في الاستقلال الأول، أي أن تقتنع هذه الجماعات بأن ترسيخ الاستقرار يتطلّب منها حسم ولاءاتها العقائدية والدينية والسياسية لمصلحة ولاء واحد للبنان.

 

وعلى رغم أن الحياد أصبح اليوم أمراً واقعاً دولياً على أثر “حرب الإسناد” وإصرار واشنطن ومن معها على إخراج الدور العسكري الإيراني من لبنان، وجاءت التطورات المتلاحقة وفي طليعتها إسقاط نظام الأسد الذي يُسقط جسر التدخُّل الإيراني في الشأن اللبناني لتحصِّن الاتجاه الدولي، إلا أنه ما يستدعي التوقُّف عنده يكمن في جانبين أساسيين:

 

الجانب الأول يتعلّق بضرورة أن تتبلور قناعة لدى الجماعات اللبنانية كلها في الحياد، وما لم تتبلور هذه القناعة فإن الاستقرار اللبناني سيبقى معرضاً للسقوط في اللحظة التي تحمل معها نشوء مشروع توسّعي، وهذا الاحتمال يبقى قائماً في منطقة لم تصل شعوبها بعد إلى قناعة بأولوية استقرارها ودورها داخل حدودها، والاتكاء على المجتمع الدولي وحده غير كاف، والدليل أن لبنان ترك لقدره ومصيره لستة عقود بالتمام والكمال.

 

وإذا كان من الضروري الاستفادة اليوم من المومنتم الدولي الذي سيَّج الحدود اللبنانية وفرض بالقوة على إيران الخروج من لبنان، فإن الاندفاعة الدولية قد لا تحافظ على وتيرتها وديمومتها في ظل انشغال عواصم القرار في أزماتها وأزمات العالم، فضلاً عن أن لبنان استفاد من المصلحة الدولية في تحييده وترسيخ استقراره، والمصالح الدولية متقلبة دوماً، والقاعدة التي تحكم العالم هي المصلحة، ولذلك، أولوية الأولويات تبقى في إنضاج قناعة لبنانية بأن الحياد يشكل مصلحة مشتركة للمجموعات اللبنانية كلها، وما لم تتبلور هذه القناعة فإن لبنان سيبقى بيئة حاضنة للمشاريع التوسعية الخارجية، واستقراره معرّض للاهتزاز والسقوط.

 

الجانب الثاني يرتبط بقاعدة أساسية وهي أن الردّ على انغماس فئة معينة بمحور معيّن لا يكون من خلال التمسُّك بالحياد، لأن الفئة المنغمسة ستفرض إيقاعها وشروطها وسيطرتها على غرار ما كان عليه الوضع قبل رفع اليد الإيرانية عن لبنان، عبر اتفاق وقف إطلاق النار وإسقاط نظام الأسد، إنما يكون بالردّ بالمثل، لأن الحياد يشكل مصلحة لجميع اللبنانيين وليس لفئة منهم، وبالتالي إما أن يكون الحياد هو القاعدة، وإما يتحوّل الانغماس إلى القاعدة، وخلاف ذلك يختلّ ميزان القوى لمصلحة الفريق المتحالف مع دولة إقليمية.

 

ولأن الصراع في لبنان والمنطقة لم ينته فصولاً بعد ولن ينتهي قبل سقوط النظام الإيراني، لأن علّة وجود هذا النظام قائمة على التوسُّع، فإنه لن يتوانى ولن يتردّد في إعادة تجديد وإحياء مشروعه التوسعي عندما تعبُر العاصفة الأميركية والإسرائيلية، في حال نجح بالتمسكن للتمكُّن في مرحلة لاحقة، وهذا ما يجعل من الواجب والضروري التخلّي عن نظرية الحياد والتمحور مع الدول العربية والغربية التي تعادي هذا المشروع، فلبنان يجب أن يشكل جزءاً لا يتجزأ من المواجهة ضد المشروع الإيراني.

 

فالحياد لا يستقيم في ظل من يراهن على الوقت لعبور العاصفة تمهيداً لإحياء مشروعه التخريبي في لبنان، إنما يستقيم عندما يسقط النظام الإيراني أولاً، وعندما تعبِّر الجماعات اللبنانية بوضوح شديد ثانياً عن التزامها بلبنان أولاً، ويتم وضع الضوابط التي تحول دون سقوط الحياد مستقبلاً ثالثاً.

 

فالوقت اليوم ليس للكلام عن الحياد في ظل الكلام المتجدِّد عنه بعد أفول المشروع الإيراني، إنما المصلحة اللبنانية العليا تقتضي تحصين هذا الحياد من خلال الشبك مع المحاور الخارجية التي تعادي المشروع الإيراني حتى سقوطه، منعاً لمنحه فرصة العودة إلى ربوع لبنان مجدداً، فضلاً عن أن تحصين الحياد يتطلّب الشراكة مع العواصم القادرة على حمايته بالقوة.