يقول البطريرك الراعي «لبنان يتوق إلى احتضان الحياد بهدف التخلص من الفقر والجوع»، ويضيف: «عندما أقول الحياد يعني لبناناً قوياً وجيشاً قوياً». إن ما يمكن استنتاجه من كلام غبطته مفاده أن الجيش الوطني اللبناني حتى لو كان يخوض بمفرده غمار المقاومة بأسلحة حزب الله المتطورة والدقيقة، كان الصرح البطريركي في بكركي سيدعوه إلى اعتناق مذهب الحياد، وكأن الزمن يعود بنا عقوداً إلى الوراء ليقول لنا قوة الجيش بحياده وقوة لبنان بحياده.
فالمقاومة في القاموس الاميركي ممنوعة على الجيش الوطني اللبناني أيضاً لأن مصلحة اسرائيل بالنسبة للسوبرمان الأميركي تفوق كل اعتبار. وهنا يظهر السؤال المطروح ليقول لنا هل تخلت اسرائيل عن اطماعها بلبنان لندعو كل مقاوم إلى نزع سلاحه؟، وهل عادت واشنطن وتخلت عن صفقة القرن وتوطين الفلسطينيين في لبنان لنقول لكل مقاوم انزع سلاحك؟
كيف يمكن الوقوف على الحياد والذاكرة تعود بنا إلى تلك الدراسة الصادمة الصادرة عام 1988 والمعنونة بعلى مشارف القرن الواحد والعشرين من قبل معهد فان لير الاسرائيلي، إذ تقول بأن اسرائيل تحتاج إلى استمرار الحصول على مصادر المياه وفرض شرعيتها على الأراضي التي أخلتها مع استمرار أعمال اخلائها بشكل تام من سكانها العرب حفاظاً على الهوية اليهودية وكل ذلك لتحقيق مشروع اسرائيل الكبرى الهادف إلى الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط.
أما الهدف السياسي لتلك الدراسة فيحتم بقاء الدولة العبرية في الشرق الأوسط داخل حدود آمنة معترف بها دولياً والسعي إلى مد السيطرة إلى منابع أنهار الأردن وجنوب لبنان وجبل الشيخ، فيما يتطلب هدفها الاقتصادي بسط سيطرة اسرائيل على اقتصاديات دول المنطقة برمتها بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وفتح أسواق جديدة لها في جميع دول العالم.
أما كتاب الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان لمؤلفه بدر الحاج فيكشف أن اطماع الصهاينة كانت في مد نفوذهم ليشمل جنوبي لبنان وقد ذكر ذلك في مؤتمر الصلح الذي عقد في فيرساي عام 1919 وعاد بين غوريون ليؤكد عليها في خطابه الشهير عام 1937، لذا أين تكمن منافع الحياد مع هذا الكيان؟
من هنا لا يسعني إلا أن أحيلكم إلى ما قاله مؤلف كتاب خطر الصهيونية على النصارى والمسلمين الصادر عام 1956 الأب طانيوس منعم رحمه الله لعلنا ندرك من خلال تحليله الديني بأن الحياد لا يمكن أن يكون يوماً السلاح الذي يدرء أخطر كيان استيطاني دموي توسعي على وجه المستديرة .
يقول الأب منعم في الصفحة 31، إن «إله التوراة غير إله الانجيل، وبعيد كل البعد عن تعاليم القرآن، فإله التوراة يقول لا يقف انسان في وجوهكم فأنا الرب الهكم يلقي ذعركم على كل الأرض التي تطؤونها كما وعدكم وأن كل موقع تطأه أخامص اقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان ومن نهر الفرات إلى البحر الأقصى يكون تخمكم، لذا ادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعانيين ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات»، (صفحة 34 «تثنية الاشراع فصل 1 عدد 7).
وبدوري أقول فليعلم من لم يعلم بعد منذ متى كانت أطماع ذلك الكيان متربصة بلبنان، نعم متربصة منذ ولادة التوراة!! حتى انه يجب التذكير بأن تحف ومنحوتات وأبواب ونوافذ هيكل سليمان تم تصنيعها من خشب أرز لبنان، والواضح أنه وبعد انتظار عقود وعدم اكتمال الشروط لبناء الهيكل للمرة الثالثة لم ييأس المتشددون في أميركا من اعتبار خشب الأرز اللبناني جزءًا هاماً جداً من مبنى الهيكل، وأن لبنان وأرزه ذكرا أكثر من خمسماية مرة في كتب العهد القديم والجديد، وان استبدال خشب الأرز بخشب آخر أمر ممنوع وخطيئة مميتة، والاطماع مازالت تعربد بعد آلاف السنين في السماء اللبنانية وفي شرعة حقوق الانسان، فكيف لنا بعد ذلك أن نقف على الحياد أمام شريعة الغاب الصهيونية؟
يقول المؤرخ والكاتب فواز طرابلسي في كتاب «صلات بلا وصل» صفحة 298 بأن «فكرة الحياد تعود إلى مقولة لبنان سويسرا الشرق»، والأرجح أن المقولة قد أطلقت ابان العهد النابليوني وخصوصاً ابان حقبة نابليون الثالث الذي أغدق على سكان الجبل اللبناني الوعد بأن تصبح جبالهم مستقلة ومزدهرة مثل جبال سويسرا بمعاونة فرنسا الحنونة.
وبالمناسبة أذكر بأن عضو المجلس الاداري للبنان ابان الاحتلال الفرنسي له سليمان كنعان دعا إلى تبني نظام حياد وذلك غداة الدعوة إلى الوحدة السورية، كما ان بعض الاحزاب المارونية دعت إلى الحياد في لبنان في مرحلة الوحدة السورية المصرية ابان زمن الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر، كما أنه وفي بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 دعت الجبهة اللبنانية إلى تبنّي مشروع الحياد.
والملاحظ أن القوى المارونية في جبل لبنان تحتمي دوما بالحياد المؤدي في أغلب الأحيان إلى التقوقع والانطواء خوفاً من ذوبانها في مشاريع قومية أو أممية تقدمية، وقد لاحظنا كيف أن البطريرك الراعي رفض اتجاه لبنان شرقاً ورفضه لم يكن من اتجاه لبنان نحو ايران فحسب بل نحو روسيا ايضاً الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي ونحو الصين الشيوعية، وهذا ما يعتبرونه ضرراً بمصالح الكنيسة المارونية حالياً كما في السابق، لأن مصالح الاغتراب الماروني كانت ولا تزال مع دول الغرب، ويذكر أن الكرسي الرسولي يقيم علاقات دبلوماسية مع اسرائيل منذ العام 1983 يوم كان يوحنا بولس الثاني باباً للفاتيكان .
وفي الختام أسأل كيف يستطيع أن يكون لبنان محايداً والخبير الاقتصادي الكبير لويس حبيقة ورداً على سؤال لموقع ايلاف الناطق باللغة العربية بتاريخ 9 كانون الاول 2019 قال بأن اسرائيل تطمح إلى خراب لبنان وسرقة ما يملكه من نفط وغاز لأن تلك الثروات ستساهم بتغطية الدين العام وتخفيض الفوائد وتعين على حل معضلة البطالة وعلى تعزيز القطاعات الاقتصادية في البلاد.