رأى البطريرك الماروني بشارة الراعي أنّ التزام لبنان الحياد تجاه الصراعات في الشرق الأوسط من شأنه أن ينعكس إيجاباً على الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية في البلاد. وقد توافق البطريرك ورئيس الحكومة على مناقشة موضوع «حياد لبنان» انطلاقاً من إطاره الوطني والقانوني من خلال مؤتمر وطنيّ يجمع الأطراف السياسيّة. وقد شدّد الراعي على أن «خلاصنا بحيادنا» في حين أشار رئيس الحكومة إلى «أننا محكومون بالدستور والطائف، وإسرائيل عدوة وتنتهك السيادة اللبنانية كل يوم».
بالعودة الى تاريخ لبنان، نجد انّه ومنذ نيله استقلاله كان لبّ الموضوع مطروحاً. حينها اتّفق الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصّلح على شعار «لا للشّرق ولا للغرب»، ولكن الممارسة أظهرت أن الشّعب كان منقسماً بين الشّرق والغرب، كما هو الحال اليوم، وان الخارج تعامل مع لبنان من هذا المُنطلق وبحسب مصالحه في البلد. وبذلك يكون طرح الحياد المبني على عدم انحياز لبنان بين الشّرق والغرب هو طرحٌ مستحضرٌ من القرن الماضي برهنت الأحداث انّه من الصّعب تطبيقه، ولا يمكن تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والعالمية في ظل نظام طائفيّ ترتبط فيه كلّ طائفة بدولةٍ أجنبية وتُطالب فيه كلّ طائفة بتحصين حقوقها.
ويعتبر البعض أنّ مصطلحا الشّرق والغرب في يومنا هذا يُعنى بهما إيران وامتدادها شرقاً والولايات المتّحدة الأميركيّة مع أوروبا غرباً، حيث أنّ الولايات المتّحدة تسعى «لرفع هيمنة حزب الله على القرار اللبناني» وعدم السماح له بربط لبنان بمحور إيران والممانعة. وبالتالي يخضع مبدأ حياد لبنان عن القضايا الدوليّة أو الإقليميّة في المقام الاوّل الى حساباتٍ دوليةٍ واقليميّةٍ تحتاج الى توافق الدوّل على هذا الأمر قبل كلّ شيء، أي أن تطبيق الحياد يستوجب اعتراف الدّول المعنيّة وتسليمها بهذا المبدأ، سيّما أنّ ما من مؤشّر حتّى الآن على دعمها لخيار الحياد.
وفي هذا السّياق، يبدو أنّ طرح الحياد من المقر الصيفي للبطريركية المارونية في الدّيمان يحمل في طيّاته عتباً على العهد جرّاء تحالفه مع حزب الله والمضيّ بخيارات سياسية جرّدت لبنان من عناصر قوّته وباتت تهدّد وجوده كدولة، والحقت اضراراً سياسية واقتصادية واجتماعية جسيمة بالمسيحيّين. وجوهر طرح الحياد هو عودة حزب الله الى الداخل اللبناني وعدم الاستمرار في خوض الحروب الخارجيّة، الأمر الذي لا يبدو انّه سيحصل في القريب العاجل، وقد شهدت الساحة اللبنانيّة انقساماً حاداً في الآراء بخصوص الحياد وأطره ومنطلقاته.
وفي موازاة مواقف البطريرك الراعي، شهدت دار الفتوى عدّة لقاءات ومواقف داعية إلى عقد لقاء وطني جامع يدعو الى تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدوليّة، والالتزام بالإجماع العربي والقضية الفلسطينية وتنفيذ القرارات الدولية ومجلس الأمن المتعلّقة بلبنان، ويكون بذلك حواراً لبنانياً – لبنانياً يرتكز الى القواعد الوطنية التي دعا إليها الراعي خلال الأسابيع الأخيرة.
بالنتيجة ليست مُعضلة لبنان في التوجّه شرقاً أو غرباً بل في عدم قدرته ممارسة السّيادة والاستقلال قولاً وفعلاً بما يتناسب مع مصلحة لبنان وشعبه قبل أي اعتبار، ذلك أنّ الحياد هو قرار سيادي يقتضي بأنّ تكون مصلحة المواطن اللبناني وأمنه ورفاهيته هي أساس التعاطي وعقد الاتفاقات مع الخارج مهما كانت طبيعة المصالح والتجاذبات والصراعات بين الدول، ومن دون تأثّر لبنان بالإملاءات أو «التمنيات» أو التهديدات الخارجيّة. والقدرة على اتخاذ موقف الحياد تحتاج الى منطلقات اساسيّة ومنها تبنّي اللبنانيّين هوية سياسية وثقافية واجتماعية وطنيّة جامعة، وتحصين الأحزاب والكتل البرلمانية والسلطات والإدارات ضدّ التدخّلات الخارجيّة، وبناء قدرات لبنان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة بعيداً الارتهان للخارج.
وتبقى الثابتة الاساسيّة الجّامعة بين اللبنانيّين اعترافهم بأنّ الكيان الصّهيوني «إسرائيل» هو عدوٌّ ينتهك السّيادة اللبنانية كل يوم وله أطماع في الأرض والمقدّرات اللبنانيّة، وتجاه هذا العدوّ لن يكون أيّ حياد، بل على اللبنانيّين ان يكونوا متطرّفين حتّى الاستشهاد.