تصرّ بعض الأطراف اللبنانية على بقاء لبنان ساحة للصراعات، غير عابئة بما رتّب ذلك على اللبنانيين في بلدهم وفي كلّ دول العالم، مُعتبرة أنّ ما يجري هو جزء مِمّا يتوجب على اللبنانيين دفعه، في معركة كبيرة تدور بين مِحور “المُمانعة” ومِحور “الشرّ” المُتمثّل بالولايات المتّحدة وحلفائها. فلا ضَير إن دفع اللبنانيون أثماناً من مستويات معيشتهم وأوضاعهم الإجتماعية وقطاعاتهم، وهي بنظر المُمانعين كلّها قابلة للتعويض ولا تستحقّ ذلك الندب والبكاء، في وقت أنّ هناك من يُضحّي بدمه وروحه من أجل انتصار مِحور المُمانعة في لبنان، وفي كلّ الدول المُنخرطة فيه، من سوريا إلى إيران والعراق واليمن، وصولاً حتى فنزويلا.
هذا الواقع يراه كل اللبنانيين، ومن ضِمنهم من هم حلفاء مِحور المُمانعة، لمصلحة من هنا ومصلحة من هناك. ويُدرك هؤلاء الحلفاء، ولا سيما المسيحيّون منهم، أنّ المسار الذي يسير به لبنان، لن يوصله قطعاً إلى شاطئ الأمان، ولكنّهم لا يُبادرون إلى التصدّي لهذا المسار، لا لوقفِه، بل على الأقلّ للتخفيف من أضراره، وتحييده عن مطبّات قاتلة.
هذه الفئة وقعت في حيرة من أمرها، عندما أطلق البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي معركة الحياد. فهي في قرارة نفسها، تُدرك أنّ الحياد هو الخيار الأسلم والأصحّ لإنقاذ لبنان، وللحفاظ على الوجود المسيحي الفعال في هذا البلد، ولكنّها تخشى المُجاهرة بهذا الموقف، خوفاً من إغضاب قوى المُمانعة الأساسية، وفي مُقدّمها “حزب الله”، فتسقط عندها آخر الأوراق التي تُغطّي هذا التحالف، وسينعكس ذلك بالتأكيد على استحقاقات مقبلة، وفي مُقدّمها رئاسة الجمهورية.
إزاء هذا الواقع، عمدت هذه الفئة إلى ربط قبولها بالحياد، بما سمّته الحِفاظ على مكامن القوّة في لبنان. وهذا طرح من الناحية النظرية، لا لُبس فيه، لأنّ الحياد لا يعني أن يتخلّى لبنان عن جيشه، وعن التصدّي لأيّ اعتداء عليه من قِبل العدوّ الإسرائيلي أو غيره، أو أن يُفرّط بالأرض اللبنانية المحتلة ولا يعمل على استعادتها. ولكنّ هذا الطرح من الناحية العملية، تشوبه شوائب عديدة تجعل من الحياد عنواناً فقط، وتبقي الدولة كصورة فقط من دون قرار ومضمون. فمكامن القوّة يجب أن تكون بيد الجيش اللبناني وبإمرته، ويجب أن تكون مُخصّصة للدفاع عن لبنان ضمن الحدود اللبنانية، ويجب ألّا تكون وسيلة ضغط أو تخويف، وفرض أمر واقع تجاه أي فئة من اللبنانيين.
هذه السياسة التي يعتمدها البعض وِفق المثل الشعبي”إجر بالفلاحة وإجر بالبور”، لم تعد تفي بالغرض المطلوب منها، وهو إرضاء الجميع. فالكثير من المُعطيات في الداخل والخارج قد تغيّرت، ولن تعود إلى ما كانت عليه، حتى لو ذهب ترامب وحلّ بايدن محله، وقد حان الوقت لمن يعتمد هذه السياسات، أن يُدرك أنه أصبح أمام خيارات لا رمادي فيها، إذا كان يريد أن يحفظ لنفسه دوراً في أيّ محور كان.