أثبتت الأحداث، منذ نشأة الكيان اللبناني، أنّ الحياد الذي شكّل القاعدة الميثاقية الأولى لاستقرار الجمهورية الأولى يسقط في كل مرة يهتزّ فيها الاستقرار في المنطقة، كما أثبتت أنّ الحياد وَصفة مسيحية يصعب على الإسلام تقبّلها.
تجربة العيش المشترك غير قابلة للحياة من دون إعلان حياد لبنان، وإذا كان من فضل للحقبة الذهبية بين الاستقلال والحرب الأهلية، فتعود للحياد، فيما انهيار الدولة أو شللها كان سببه خرق هذه القاعدة، وهذا ما حصل في أحداث العام ١٩٥٨ جزئياً، وبعد نكسة حزيران ١٩٦٧ وصولاً إلى اليوم كليّاً.
وقد دَلّت الأحداث منذ ما قبل اتفاق القاهرة إلى اليوم أن لا دولة من دون حياد، ولا عيش مشتركاً من دون حياد، ولا استقرار من دون حياد، وبالتالي المدخل للعبور إلى الدولة وإنجاح العيش معاً وترسيخ الاستقرار يكمن في اتفاق جميع اللبنانيين على مبدأ الحياد.
ولكن هذا الاتفاق متعذّر لأنّ الإسلام والحياد نقيضان يصعب التقاؤهما، والسبب في ذلك تكويني لا إرادوي، وذلك انطلاقاً من البعد الديني والتراكم التاريخي الذي يُسقط الحدود الجغرافية ويُعلي المفهوم الديني، وإلّا كيف يمكن تفسير «الهجمة» السنية من كل دول العالم للقتال في سوريا، أو قتال «حزب الله» في سوريا والعراق واليمن، أو استعداد دروز لبنان لمؤازرة دروز سوريا عسكرياً؟
فأولوية الأمة والأخوّة في الدين وحماية الطائفة تتصدر الأولويات الوطنية والقومية والكيانية، وهذه حقيقة يجب الإقرار والتسليم بها. وما كان ينطبق على السنّي في زمن الثورة الفلسطينية ينسحب على المكوّن الأبرز شيعياً في زمن الثورة السورية.
فالمسيحي لم يفكر للحظة بالذهاب للقتال في سوريا أو العراق دفاعاً عن المسيحيين في معلولا أو الموصل وغيرهما، وعدم تفكيره لا يعني عدم قدرته، لأنه قادر على تجنيد الآلاف وتجييشهم لَو قصد، إنما كيانيّته المتجذرة لا تسمح له بذلك، وهو إن دافعَ يدافِع عن سيادة لبنان واستقلاله، والقضايا التي يرفعها وطنية بامتياز تعني السنّي والشيعي والدرزي بقدر ما تعني المسيحي. وبالتالي، هو ليس بوارد القتال دفاعاً عن مقامات ورموز مسيحية في هذه الدولة أو تلك.
ودَلّت التجربة أنّ الاستقواء أدى إلى إسقاط الحياد مرة على يد السنّي، وأخرى على يد الشيعي، وثالثة على يد المسيحي من موقع الدفاع عن النفس، ورابعة بفِعل التفاهم السني-الشيعي إبّان حقبة الوصاية السورية.
فالاستقواء مرفوض أكان مسيحياً أو سنياً أو شيعياً أو درزياً، لأنّ هذا المنطق يقود إلى الاستئثار والهيمنة والاختزال ويضرب عرض الحائط مشروع الدولة وميثاق العيش المشترك بين اللبنانيين، والاستقواء إن وجد يكون بالدولة والدستور والقانون والانتخابات، وليس بدول خارجية وسلاح خارج الدولة.
ومن الواضح أنّ الحياد مستحيل في حالتي الصراع السني-الشيعي والاتفاق السني-الشيعي، كما استحال في زمن الخلاف المسيحي-الإسلامي. ولكن في ظل خضوع لبنان والمنطقة للصراع السعودي-الإيراني والسني-الشيعي، فمن الطبيعي أن يَجد السني والشيعي نفسه منجرفاً في هذا الصراع، وبالتالي من الصعوبة بمكان الكلام عن الحياد في قلب هذا الصراع المفتوح.
ومع استحالة العودة إلى مبدأ الحياد أصبح لزاماً على المسيحيين التكيّف مع هذا الوضع بدلاً من مواجهته التي لن تبدّل في هذا الواقع، والتكيّف يعني الانصراف إلى شؤون بَيتهم عبر تقوية نفوذهم بانتظار ان تنقشِع ظروف المواجهة في المنطقة وما ستؤول إليه.
وإذا كانت مصلحة المسيحيين تَكمن بالتوازن السني-الشيعي الذي وحده يقود إلى تسوية متوازنة، فإنّ التكتيك الذي يفترض بالمسيحيين اعتماده يجب أن يقوم على التناغم بين فريقي الصراع داخل البيئة المسيحية لِما فيه المصلحة العليا للمسيحيين، ولكنّ هذا التناغم يتطلّب إدارة حكيمة من الطرفين تعمل على تخريج الأمور على مستوى تعزيز حضورهم داخل هيكل الدولة من دون تنازل أيّ فريق عن خياراته الكبرى، إنما شرط ألّا تنعكس هذه الخيارات سلباً على هدفهم المرحلي كما هو حاصل اليوم من خلال تمسّك أحدهم بشروط مستحيلة.