مدرسة التلبُنن الانعزالي، كما يسمّيها البعض، والتي لطالما استفاض كارهوها في انتقادها، إثر تبنّيها طروحات التعددية، ومنها الفدرالية أو سواها، خلاصاً للبنان عموماً والمسيحيين خصوصاً، تطغى اليوم على وجدان خطاب كثير من القوى السياسية التي استشعرت في جزء كبير منها خطر جنوح «حزب الله» بسبب «مشاريعه الاصولية»، التي يتهم بحملها، والتي تعتبر «خطراً يهدد هوية لبنان» شيئاً فشيئاً، ويحجب عنه وجهه المشرق ويُبرقع حريته بتيوقراطية مستوردة تساهم في تصدير أبنائه للهجرة.
فلبنان التشاركي الذي لم يُنتج منذ «اتفاق الطائف» وحتى اليوم الّا سلطة مأزومة، ودولة مفلسة، وبلداً مشلّعاً على ساحات نزاع المنطقة، لم تعد تجدي معه، بحسب مرجعياته الميثاقية والروحية، سياسة الانتظار والحنكة وتدوير الزوايا. فإمّا الحياد الكامل عن كل المشاريع الخارجية، وامّا فالتقسيم الاداري الفدرالي، كنظام لفَض الاشتباك السياسي والثقافي بين بيئات ومكونات متباينة، هو السبيل لخلاص الجميع.
قبل الغوص في مبدأ الحياد المطلوب، لا بد من المرور على انتقادات بعض الرافضين، انطلاقاً من ارتباطهم بفكر ولاية الفقيه والولاء له. يرى هؤلاء انّ الفدرلة، حتى وإن نجحت في بعض الدول، الّا انها في لبنان ستعيد إنتاج الاقطاعيات الوراثية المذهبية. كما انها ستقابل ببعض الدعوات للانضمام الى الجغرافيا السورية (التي للمفارقة اصبحت الفدرالية أمراً واقعاً على أراضيها) فضلاً عن انها تمثّل بُعداً لأجندة اسرائيلية لضرب حق العودة وتوطين الفلسطينيين.
وهنا مسألتا التوطين والتقسيم متلازمتان، حيث سيذهب بعض القوى المسيحية الى اعتبار انّ التوطين هو مقدمة للتقسيم على قاعدة الخلل الذي سيحدثه في التركيبة اللبنانية.
وما استحضار شتيمة الرئيس بشير الجميّل مجدداً في الاسابيع الماضية من دون اي مناسبة او توقيت يبرّر الهجوم عليه، الّا تذكيراً من قِبل هذه القوى بأنّ اي اعادة إحياء لطروحات مشاريع فدرالية ستصبغ «بالأسرلة»، لتقابل باغتيال دموي يدفن أيّ بشير سياسي او معنوي او شعبي يمكن ان يهددها.
صحيح انّ لبنان، بتبايناته الثقافية والاجتماعية بين طوائفه، يفتقر الى الحس المدني الفدرالي الذي يجعل من الانفصال أمراً سهل التحقيق، وصحيح انّ تطبيق الفدرالية السياسية في لبنان يحتاج الى عمليات «فرز قسري وترانسفير» سكاني لا يتم الّا بعد حرب دموية. لكن الصحيح ايضاً انّ التباينات هذه لا يمكن ان تحتمل فَرض خيار «حزب الله» الايديولوجي ومن ورائه حلفاؤه الذين يتلهّون بمغانم السلطة على حساب بقية اللبنانيين.
فلبنان لا يمكن ان يكون لا العراق ولا اليمن ولا سوريا ولا فنزويلا بسبب هذه التباينات الثقافية والاجتماعية بين طوائفه نفسها. فالهوة سحيقة بين ما تحاول منظومة السلطة الحالية فرضه، وبين ابنائه الرافضين الانصهار والخنوع والركوع والصمود، أمام مشاريع لا تشبههم، ولا تشبه احلامهم، ولا احلام اولادهم، ولا ماضي آبائهم وامهاتهم ومستقبلهم، لا بل تشكّل تدميراً لكل ما بَناه أجدادهم الذين تشبّثوا بهذه الارض أيام الاحتلال العثماني والفرنسي، وصولاً إلى الاسرائيلي والسوري وأيّ احتلال مقنّع آخر…
لا يمكن ان تُقنع مَن هدر دماً من اجل التحرير الاول بأنّ دماء التحرير الثاني هي أرفع وأعلى مقداراً وشأناً، وانّ منطق فرض الوقوف وراء اي خيار تأخُذه، هو واجبٌ أخلاقي يُفرض بقوة السلاح. ولا يمكن ان تقنع مَن هدر دماً من اجل التحرير الاول وشكّل ظهراً لك في التحرير الثاني، انّ خيار بقاء ولاية الفقيه، كما يرونَهُ كل يوم في شتى مجالات حياتهم العامة والخاصة من دون استثناء، لن يكون على حساب بقائهم وبقاء أبنائهم.
ما زال الوقت متاحاً امام التراجع لبقاء الوطن، عبر الشروع بمشروع ٍ إصلاحي توافقي لبنية النظام اللبناني وتعزيز مفهوم المواطنة فوق كل شيء، وتحصين هذه البنية بالحياد والنأي بالنفس، ما زال الوقت متاحاً…
وإلّا فالزوال آتٍ لا محالة…
من اليوم وحتى حسمِ الخيارات الوطنية والسلطوية، الخوف يبقى ان يكون إرهاق الدماء عبر أحداث أمنية مفتعلة، وفق سيناريو 75 أو 2005، مخرجاً شيطانياً إجرامياً للمتضررين من خطاب استعادة الشرعية.