بين الحين والآخر، يُستعاد طرح الحياد الإيجابي للبنان أو الحياد عموماً أو التحييد. وتنطلق النظريّات التي تحلل هذه المفاهيم السياسيّة محاولة إسقاطها على التجربة اللبنانيّة وتطبيقها عليها رغم تعقيدات الظروف المحليّة وتشابكاتها الإقليميّة، التي ترتكز على جذور تاريخيّة ضربت في عمق الكيان اللبناني الذي “يحتفل” بمئويته الأولى في شهر أيلول المقبل (يا له من احتفال في أجواء من الجوع والعوز!).
ولكن بمعزل عن التفسيرات النظريّة التي يمكن لعلم السياسة أن يغوص فيها، وبمعزل كذلك عن الأمثلة التي يمكن الركون إليها (سويسرا مثلاً التي أقرّ حيادها في مؤتمر فيينا في العام 1815) للدلالة على نجاح هذا الخيار؛ ثمة معطيات وحيثيّات تتصل بالواقع اللبناني حصراً وتتعلق بطبيعة اللاعبين الدوليين والإقليميين المؤثرين على ساحته الداخليّة الذين تبدلت هوياتهم في العقود الأخيرة من دون أن تتبدّل ثابتة أن لبنان “دولة مخترقة” تعاني من ضعف سلطتها المركزيّة.
لعله من المفيد جداً إستعادة النقاش الداخلي الحيوي حول حياد لبنان، لا سيّما في هذه اللحظة الصعبة والمفصليّة من تاريخ البلد الذي سبق أن ارتكزت فكرته الأساسيّة على الانفتاح باتجاه الشرق والغرب، وبنى موقعه المتميّز بأن يكون في موقع متقدّم في حركة استقطاب الاستثمارات والرساميل العربيّة والأجنبيّة. طبعاً، هذا لا يلغي العشرات من الملاحظات حول السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، والتي لم تولِ أي أهميّة تُذكر للعدالة الاجتماعيّة والإنماء المتوازن وسواهما من الأمور التي تركت ندوباً وفوارق اجتماعيّة هائلة بين اللبنانيين.
إلا أن كل ذلك، لا يلغي المكانة التي احتلها لبنان والتي عزّزتها مناخات الحريّات السياسيّة والاعلاميّة وحرية المعتقد وحرية التظاهر وسوى ذلك من الصفات، التي أتاحت للبنان أن يلعب دوراً متقدّماً في المنطقة وأن يشكل متنفساً للملاحقين في دولهم من قبل الأنظمة التسلطيّة، كي يعبّروا بحرية عن أفكارهم وقناعاتهم السياسيّة والدينيّة والثقافيّة.
المهم أن كل هذا أصبح اليوم من الماضي بفعل الاصرار على استلحاق لبنان بمحاور إقليميّة لا تتماهى في تركيبتها وطبيعتها السياسيّة مع الواقع اللبناني، وأدّى هذا الاستلحاق عمليّاً إلى عزل لبنان عن محيطه العربي والدولي. هذا الخيار السياسي هو الذي أوصل لبنان إلى ما وصل إليه وليس القرار الدولي بمحاصرته كما يحاول أن يوحي البعض.
إذ عندما يكرّر “المجتمع الدولي” إستعداده مراراً وتكراراً دعم لبنان شرط إقرار الاصلاحات المطلوبة (التي تصبّ في مصلحة لبنان في نهاية المطاف)، هل يكون ثمة قرار جدّي بالحصار؟ أم أن بعض المسؤولين اللبنانيين لا يمانعون في الاستماع إلى معزوفة “التأنيب” التي تُساق بحقهم (وحق لبنان) كما فعل منذ أيّام وزير الخارجيّة الفرنسي؟
خلاصة الأمر أن تطبيق الحياد يتطلب توافقاً داخلياً وقبولاً إقليميّاً. أغلب الظن أن الأمرين ليسا متوفرين في هذه اللحظة بسبب غياب التفاهم المحلي على الأولويات والخيارات الاستراتيجيّة الكبرى، وبسبب عدم رغبة الأطراف الاقليميّة الفاعلة باعتماد هذا الخيار.
هل يمكن مثلا تصوّر إسرائيل التي تكرّس أحاديتها وتمقت التجربة التعدديّة اللبنانيّة وتواصل سياستها التوسعيّة، ستقبل بحياد لبنان الذي ترغب بتفتيته إلى دويلات طائفيّة ومذهبيّة متقاتلة في ما بينها لتبسط نفوذها على المنطقة برمتها؟ وهل يمكن مثلاً تصوّر أن النظام السوري الذي لطالما اعتبر لبنان “حديقته الخلفيّة” التي كان يحسّن أوراقه التفاوضيّة من خلالها سيقبل بحياد لبنان؟
المهم أن يبقى هذا الطرح حيّاً وأن يسعى نحوه رئيس الجمهوريّة الذي يفترض أنه يسهر على سيادة لبنان ووحدة أراضيه، وذلك من خلال إعادة توسيع الهامش الذي ضاق أخيراً بشكل غير مسبوق بين الخطاب الرسمي وخطاب أحد المكونات اللبنانيّة. فالالتصاق التام بينهما سيعمّق الخناق ويفاقم “الحصار” بدل أن يفكه!