Site icon IMLebanon

سياسة تحييد لبنان عن صراعات المحاور تحتاج إلى وحدة داخلية وموافقة دولية

مما لا شك فيه أن تحييد لبنان عن صراعات المحاور هو السياسية الحكيمة التي تحمي وحدته الداخلية وتصون سلمه الأهلي وترسّخ استقراره السياسي والأمني والاقتصادي. ولكن هل من السهل اعتماد هذه السياسة عندما يكون القادة فيه منقسمين حول هذه المحاور وقادتها ويمارسون الضغوط على لبنان الرسمي لكي يتخذ قراراً ينحاز به الى هذا المحور أو ذاك حتى لو أدى هذا الأمر الى زعزعة وحدته الوطنية وضرب سلمه الأهلي؟

لذلك فإن تطبيق سياسية تحييد لبنان تطبيقاً دقيقاً يحتاج الى وحدة موقف داخلي وموافقة الدول القريبة والبعيدة على هذه السياسة تحصيناً لها وهو ما لم يحصل منذ عام 1943 الى اليوم. فعامذاك انقسم القادة في لبنان بين من يريد حماية فرنسا ومن يريد الوحدة مع سوريا، فصار اتفاق على ألاّ يكون لبنان لا مع الشرق ولا مع الغرب. لكن بريطانيا التي كانت تريد مدَّ نفوذها في كل المنطقة أصرت على أن يدخل لبنان جامعة الدول العربية خلافاً لرأي قادة فيه يعارضون ذلك كونه يخالف مبدأ “لا شرق ولا غرب”، وان مجرّد دخول لبنان الجامعة يجعله طرفاً في الخلافات بين العرب عند التصويت في اجتماعات الجامعة. وعندما تخوّف هؤلاء القادة من أن يصبح لبنان خاضعاً لما تقرره الجامعة، تم التوصل الى اتفاق على ما عُرف بـ”بروتوكول الاسكندرية” عام 1944 الذي جعل القرارات التي تتخذ بالاجماع هي وحدها ملزمة.

ولأن لبنان لم يستطع تطبيق مبدأ “لا شرق ولا غرب” بتحييد نفسه عن صراعات المحاور، كانت أحداث 58 الدامية بسبب انقسام القادة فيه بين من هم مع “حلف بغداد” ومن هم مع “التيار الناصري”. ثم كانت حرب لبنانية – فلسطينية تحوّلت حرب الآخرين على أرض لبنان ودامت 15 سنة بسبب انقسام القادة فيه بين من يؤيد تحوّل اللاجئين الفلسطينيين فيه الى فصائل مسلحة تنطلق بعملياتها ضد إسرائيل من أرض الجنوب متجاوزة سلطة الدولة اللبنانية وسيادتها، ولم ينفع حتى “اتفاق القاهرة” في وضع حدّ لذلك ولا معارضة قادة في لبنان عمل تلك الفصائل حرصاً على السيادة الوطنية. ثم انقسم القادة بين من هم مع بقاء القوات السورية في لبنان ومن هم ضد بقائها فكانت الانتفاضة الشعبية التي عرفت بـ”ثورة الأرز”. وها هم ينقسمون اليوم انقاسماً حاداً بين من هم مع بقاء سلاح “حزب الله” خارج الدولة ومن هم ضد بقائه كي تقوم الدولة القوية القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها ولا يكون سلاح غير سلاحها ولا سلطة غير سلطتها. حاول الرئيس ميشال سليمان في اجتماعات هيئة الحوار الوطني الاتفاق على استراتيجية دفاعية تضبط استخدام هذا السلاح، لكن “حزب الله” رفض أي مشروع لا يبقي سلاحه خاضعاً لقراره فقط… ثم حاول تحييد لبنان عن صراعات المحاور فجعل اقطاب الحوار يوافقون على ما عُرف بـ”اعلان بعبدا” الذي جعل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تضمّن بيانها الوزاري عبارة “انتهاج سياسة النأي بالنفس” ترجمة لمضمون هذا الاعلان. لكن إيران التي لا مصلحة لها في انتهاج لبنان هذه السياسة طلبت من “حزب الله” التدخل عسكرياً في الحرب السورية دعماً لنظام الأسد، غير آبهة بموافقة اقطاب الحوار وبالاجماع على “اعلان بعبدا”، ولا بسياسة “النأي بالنفس” التي وردت في البيان الوزاري لحكومة ميقاتي. فكانت نتيجة هذا التدخل استقالة الحكومة والدخول في أزمة تشكيل حكومة الرئيس تمّام سلام والتي دامت 11 شهراً. وها ان الحكومة الحالية تتجاذبها الآن سياستان حيال الصراع السعودي – الإيراني مما قد يعرَّضها هي أيضاً للاستقالة في أي وقت فيقع لبنان عندئذ في الفراغ الشامل، وهو ما تخطط له إيران ما لم يعجل القادة في انتخاب رئيس للجمهورية إذا كانوا مخلصين حقاً لوطنهم كي ينتظم عمل المؤسسات.

والأخطر من الانقسام بين القادة في لبنان هو أن كلاً من السعودية وإيران تريد من لبنان الرسمي موقفاً واضحاً: إما أن يكون مع السعودية من دون لبس ولا إبهام ليحصل على مساعداتها المالية، وإما أن يكون مع إيران ولا حياد مقبولاً بينهما انقاذاً لوحدته الوطنية وللسلم الأهلي، وكأن السعودية التي وقفت مع لبنان وشعبه لم تعد تريد التفهم وحدها لوضعه الدقيق وتركيبته السياسية والمذهبية منذ عقود، بل باتت تريد أن تتفهم إيران ذلك أيضاً أذا كانت تحرص مثلها على وحدة لبنان الوطنية وسلمه الأهلي.

إن لبنان يواجه اليوم مشكلة الاختيار بين السعودية وإيران، وهو لا يستطيع ذلك بسبب انقسام القادة فيه الى حد خطر الفتنة، ولا سبيل إلا النأي بالنفس عن صراعاتهما. فهل تقدّر كل من الدولتين وضع لبنان الدقيق ومساعدته على تطبيق سياسة تحييد نفسه عن صراعهما وصراع كل دولة في المنطقة رحمة به وبسلمه الأهلي وصوناً لوحدته الوطنية، وهو يعتمد في ذلك على الشقيقة السعودية لأنها تتفهم من زمان وضع لبنان ودقة تركيبته السياسية والمذهبية، وليس على إيران التي ترى مصلحة لها في ضرب هذه التركيبة لأن في نيتها تغيير وجه لبنان، وهو تغيير قد لا يحصل إلا بعد حروب مدمرة، لا سمح الله، كتلك التي تشهدها دول المنطقة. فهل تتفهّم السعودية وضع لبنان كما عوّدته إذا لم تشأ إيران أن تتفهّم هذا الوضع لغاية في نفسها؟