يكاد الحكم والحكومة في لبنان يتحولان إلى مجلس إدارة إقليمي دولي، على رغم محاولات الرؤساء ميشال عون ونبيه بري وسعد الحريري الاحتفاظ بهامش محلي للعمل السياسي، ينجحون في ذلك حيناً ويفشلون في أغلب الأحيان، ويتقبلون هذا الواقع الممتد بشكل أو بآخر منذ تسعينات القرن الماضي.
ولكن، لا خوف على لبنان من عواصف المشرق العربي، هذا الخوف الذي بدأ منذ عشرينات القرن العشرين، إذ لم يصدق معظم حملة فكرة الكيان معجزة تأسيسه، وكان عدد منهم يلتقي عند قبر الجنرال هنري غورو في فرنسا معلن دولة لبنان الكبير، امتناناً وتخوّفاً. ذلك زمن مضى وانقضى، لكن اللبنانيين يعيشونه بجوارحهم، لأن تاريخ الطوائف أكثر عراقة من تاريخ الكيان، وهي استطاعت باسم حرية العقيدة التي كفلها الدستور أن تشدد تمسكها بالجانب السياسي من الطائفية وتجعلها حاضرة في إدارات الدولة، كما في يوميات الحياة السياسية ترشيحاً وانتخاباً وتوزيراً وحكماً.
ويربط الكثيرون بين عرقلة مساعي سعد الحريري في تأليف حكومته الجديدة وتعقيدات المنطقة، لكن هذه التعقيدات لم تمنعه من تأليف الحكومة السابقة على رغم اشتعال الثورة السورية على مقربة من حدود لبنان. الجديد في هذه الأيام اشتداد الحملة الإقليمية والدولية على الامتداد الإيراني في المنطقة، ومنها لبنان، حيث يحضر «حزب الله» الموالي لطهران في صلب السياسة، فضلاً عن قوته العسكرية التي تشكل ضغطاً على الخيارات السياسية للمجتمع المدني.
ومع ضعف النظام السوري وتعاظم التأثير الإيراني على الحكم في دمشق، يبدو لبنان اليوم واقعاً بين إسرائيل وإيران لا بينها وبين سورية. وقد سرّب ديبلوماسي عربي سابق أن لبنان تم تحييده بين إيران وإسرائيل، وهما تتصارعان في المشرق العربي من دون أن تقربا منه عسكرياً.
وفي الوضع المعقد للمنطقة يبدو واضحاً أن إسرائيل حاضرة في قلب الصراع، وطموحاتها واضحة إلى لعب دور في الشرق الأوسط انطلاقاً من الصراع في سورية وعلى سورية، وتنسق في ذلك مع قوى إقليمية ودولية ذات علاقة بالوضع، من هنا توصلها إلى عزل لبنان نسبياً عن المحرقة السورية، لأنه يؤثر في إسرائيل أكثر مما تؤثر سورية، التي كانت يدها تمتد سابقاً عبر لبنان حين كانت وصية على حكمه.
تحييد لبنان عن إسرائيل وإيران تم بمعرفة الأطراف الإقليميين والدوليين وقبولهم، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا وتركيا. وهذا التحييد أطلق الصراع بين الطرفين في المنطقة كلها، من البحر المتوسط الى البحر الأحمر ومن الساحل السوري الى هضاب كردستان العراق. وكما حال المتصارعين عسكرياً لا بد من ترتيبات سياسية بينهم تحت الطاولة، لضبط الصراع وتلافي امتداده إلى مجالات لا يريدونها. هذا الأمر ينسحب على إسرائيل وإيران اللتين يشير الديبلوماسي العربي السابق إلى حصول رسائل بالواسطة بينهما عندما يتطلب الأمر.
وللبنان تراكم من المشكلات السياسية والاقتصادية يعيا بها، بعد سنوات مما يسميه السياسيون مرحلة انتقالية لم تستكمل، لأن العلاقة مع سورية وإسرائيل لم تصل الى مستقر، والأمر مرهون بالصورة المقبلة للمنطقة التي لم يتفق على رسمها كبار الإقليم والعالم، أو أنهم يستكملون الرسم استناداً إلى تعديلات هنا وهناك في التوازنات وفي النفوذ. لا استقلال كاملاً لدول المشرق العربي. هذه هي الحال منذ تكوين دولها الحديثة في القرن الماضي ويبدو أنها ستستمر.
يبقى أن اللبنانيين اعتادوا العيش بلا حكومة، بل حتى بلا حكم، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، وحراكهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يتم غالباً خارج سلطة الحكومة وتدخلاتها، التي تخلو من الإنصاف في معظم الأحيان.
هذا صحيح الى الآن، لكن اللبنانيين تعبوا وضعفت قدراتهم، بسبب هجرة معظم النخب وتفاقم التراجع الاقتصادي والمبالغة في التموضع الطائفي الى درجة خطيرة.