IMLebanon

الداعشيون الجدد، ولغة الشارع

يوم الأحد الفائت… تحدث رئيس تيار المستقبل وخاطب الشعب اللبناني… كل الشعب اللبناني، بكلام وطني خالص، يتجاوز الغوص في العمق الطائفي والمذهبي، متخذا جملة من المواقف الرصينة النابعة من أعماق ميثاقية، نشأ عليها لبنان، واستمر ساعياً على الدوام لترسيخ وجودها وتدعيم أسسها وتخليصها من أدران الخلل الطوائفي والمذهبي الذي لطالما شكّل وجوده، مزالق ومطبات أدت للدفع بالبلاد إلى مواقع خطرة، تجاوزها جميعا بكثير من الجهد ودفع الأثمان الباهظة، وأحيانا بشيء من التعثر، ومن خلال تفاعل محلي بذله المخلصون من أبناء هذا البلد، وعاونهم في ذلك إخوتهم في البلدان العربية، وخاصة ما ترسخ منها من أسس وحلول هامة أطلقها مؤتمر الطائف، الذي كاد أن يشكل خلاصا نهائيا للبنان من مشاكله ومطباته ومآسيه لو لم تسلب منه تلك المكاسب الهامة من خلال النظام السوري الذي أبقاه رازحا تحت قيود الإطباق على كل مفاصل الحياة فيه، ممارساً في تحقيق مطامعه ومراميه كل صنوف القتل والاغتيال والتسلط المخابراتي، حتى لوصل به الأمر إلى ارتكاب أدهى وأخطر الجرائم، وفي طليعتها، اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعدد كبير من قادة هذا البلد وزعمائه ورجال الأمن والسياسة والفكر الفاعل فيه، بمعاونة بعض من أعوانه والمواكبين لمسيرته، فكان أن دفع النظام السوري ثمن أفعاله الغاشمة، تمثل في خروجه بل إخراجه من كل الأرض اللبنانية، وتكاد ممارساته الرعناء في بلاده وبحق مواطنيه، أن تخرجه في هذه الأيام الملتهبة من كل الأرض السورية كذلك.

تحدث الرئيس الحريري على النحو الذي واكبه وسمعه اللبنانيون جميعا، فأدلى بذلك الحديث الوطني الرصين والمهذب والبعيد كل البعد عن ما سمعناه وشهدناه قبيل ذلك بأيام، من كلام متفلت، جاء منسحبا من خفايا وخبايا وخوابي العمق الطائفي البائد بعد أن تجاوزه معظم اللبنانيين، وفي طليعتهم، معظم المسيحيين، الذين تواكبوا في 14 آذار وأطلقوا إلى الوجود، لبنان الجديد، بشعارات ومواقف جديدة، بينها تلك التي أوجدها المسلمون من خلال الشعار الذي أطلقه الرئيس سعد الحريري: «لبنان أولاً»، ورددها مع جملة من المواقف الأخرى التي تمثلت في وجود جديد متطور لوطن يسعى إلى وحدة حقيقية بين أبنائه الحقيقيين من كل الطوائف والمذاهب، وهو ما زال على موقفه ووقفته النهائية الرامية إلى أن يكون لبنان لكل اللبنانيين في إطارات حددها وكررها وأصرّ عليها في خطابه الرمضاني الأخير.

كما أن المسيحيين الذين طاولتهم المظالم السورية، فعانى زعماؤهم من السجن والإبعاد، وعوملوا بأقصى صنوف التعدّي والتحامل، وكان أن خلقت المعاناة منهم ومن أغلبية المواطنين المسيحيين مواطنين صهرتهم تجربة 14 آذار وأوصلتهم إلى مواقع التوحد الوطني والإيمان الراسخ بأهمية العيش المشترك والتلاقي الوطني، فكان أن أبصر تيار 14 آذار النور مشكّلا إطارا وطنيا شاملا للعمل المشترك والممارسة السياسية المتآلفة والمتماسكة.

الشيء بالشيء يذكر,

لا شك أن خطاب الرئيس الحريري الأخير، مصحوبا بجميع التصريحات التي صدرت عمن سمّاهم التيار الوطني الحر، بالدواعش السياسيين، قد فرض نوعاً من المقارنة السياسية بين أقوال وأقوال، وبين مواقف ومواقف. صحيح أن الجنرال عون، مأخوذ ومهووس بالوصول إلى رئاسة الجمهورية بأي ثمن وأية وسيلة مشروعة أو غير مشروعة، إلاّ أن ذلك لا يفسر انحداره وانحدار صهره «معالي وزير الخارجية المحترم» الذي خرج عن كل قواعد اللياقة وآداب التعامل السياسي والديبلوماسي والوطني، ونقل «آداب» الشارع إلى مجلس الوزراء، بصورة مفبركة ومهيأة سلفاً، حيث نفّذها وزير الدبلوماسية اللبنانية بأسلوب مؤسف وخارج عن المألوف.

لقد كان هناك توقع أن يعمد الشارع العوني، الذي تبين يوم الخميس المنصرم أنه قد انحصر في تحركه بحدود المائتي متظاهر، حـاولوا اختراق حاجز الجيش والوصول إلى السراي الحكومي لوصل أحداث شارع المائتي متظاهر، بشارع افتعالات معالي وزير الخارجية المحترم في مجلس الوزراء بأصوله وقواعده ووجوب احترام رئيسه وزملائه الوزراء فيه.

ولقد أدرك الجميع أن هذا الأسلوب الشوارعي لا يجابه بنفس الأسلوب، فتجنبوا السير في المخطط المرسوم الهادف إلى اختلاق أحداث خطيرة كائنا ما كانت نتائجها، وقد صرح بعض المتحدثين العونيين بأنهم غير عابئين بالنتائج، لأن استمرار هذا النظام على حاله، «ستين سنة» عليه وعلى الجمهورية!!، وأن بديله الفيدرالية التي استنبشت من قبر ماض قريب، تم دفن مشروع الفدرالية غير القابلة للتطبيق فيه. إننا نشير إلى هذه النماذج من المواقف والأقوال، لندل على مدى الانحدار الذي وصل إليه مستوى المعالجات السياسية من هذا النوع، والتي يرفضها حلفاء الجنرال الذين لم يجاروه في نطنطاته السياسية المتنقلة من موقف متطرف، إلى مواقف اثر مواقف أشد تطرفا وأشد غوصا في عمق المواقع الطائفية التي من شأنها لو ترك لها عنان التحقق والنجاح، إغراق البلاد في أشد الاحتمالات خطورة وسوءا.

وعودة لا بد منها إلى خطاب الرئيس الحريري، مركزين في نخبة منها على تلك المواقف المناقضة والمناهضة لفورة الفلتان العصبي والتعصبي التي أطلقها الجنرال، وهو يهدد بالعودة إليها في مقبل الأيام والتطورات، وقد كان واضحا من هذا الخطاب أن الرئيس الحريري قد قرر مجددا، مجابهة الإيغال بالتطرف، بفيض من الحكمة والاعتدال والتسلح بالمبادئ الأخلاقية والوطنية والميثاقية الخالصة، من دون أن تخفى على أحد، تلك المحاولات الدائبة التي يبذلها البعض، لنقل التوتر السني – الشيعي القائم كليا أو جزئيا، واستبداله بتوتر سني – مسيحي من خلال انتقال مواقف ومطالب مرتبطة بأوضاع لبنانية عامة يقتضي إيجاد حل لها في حال صحة وجودها كليا أو جزئيا، إلى الإطار الوطني الذي تتداخل فيه مواقف ومواقع الغبن والغابنين والمغبونين، بحيث يصبح لجميع الإنتماءات الفئوية في هذا البلد، أن تنبش من خفايا وخبايا الأوضاع، ومن الواقع العملي في الحياة السياسية اللبنانية، مواقع غبن ومواقف غابنين، وهي أمور تثار الآن في غير وقتها الصحيح والسليم والذي يوجب أن تكون إثارتها ومعالجتها بأسلوب هادئ ورصين، في وقت يسود فيه الهدوء وتخلو فيه البلاد من احتقانات المنطقة الملتهبة بما فيه جوارنا السوري الذي انتقل فيه مقاتلون لبنانيون للمشاركة بالقتالات الدائرة هناك بين النظام السوري وشعبه، الأمر الذي أطلق العنان لجملة من الاحتقانات والمخاطر المحلية التي يمكن أن تفجرها أية أحداث مستجدة في أي وقت، ولدى حدوث أي افتعالات مكشوفة أو خفية.

وأخيراً، إن الذين يستعملون لغة النزول إلى الشارع، يعلمون جيدا أنها لغة يتقنها كل اللبنانيين وهي أسهل اللغات وأكثرها جذبا للغرائز، وقد اتهم «الداعشيون الجدد» تيار المستقبل، ومن خلاله أهل السنة بأنهم داعشيون، من دون أن يُخفى على أي عاقل في هذا البلد، أن من يقف في وجه التطرف الديني، صغيره وكبيره، هو، وبشكل أساسي، ذلك التيار بكل مكوناته ومؤيديه وأجوائه.