تطرأ حالياً على أزمات سورية وليبيا واليمن والعراق، كذلك على القضية الفلسطينية، معطيات جديدة قد تكون سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب مبعثها المباشر أو غير المباشر، بتوجّهات وأهداف خاصة ومختلفة تقطع مع نهج التراجع الذي اتّبعته الإدارة السابقة وأدّى الى صعود النهجَين التدخّليَين الروسي والإيراني. قد تكون هذه المعطيات إيجابية وقد لا تكون، فما هو جيّد لأميركا ليس بالضرورة جيداً لشعوب هذه البلدان ومجتمعاتها، أو للعرب عموماً، إلا أنها تؤشّر الى منعطفات لتحريك تلك الأزمات أو لمعالجتها وحلّها، لذلك يجدر التوقّف عندها. وعلى رغم اتّصاف الدور العربي عموماً بالغياب وعدم التأثير، بسبب اضطرابات الأعوام الستة الأخيرة وما سبقها، إلا أن القليل الذي عاد من هذا الدور يمكن أن يصنع فارقاً، مستفيداً ربما من فرملة أميركية لموسكو وطهران ومن استعداد أميركي آخذ في التبلور للعمل مع الأطراف العربية القادرة على المساهمة في أدوار فاعلة لمعالجة تلك الأزمات وإعادة ضبط الأوضاع في المنطقة. لكن يبقى تساؤلان: هل تراعي الاستراتيجية الأميركية الجديدة مصالح العرب وتأخذها في الاعتبار، وهل لدى الدول العربية الفاعلة، خصوصاً السعودية ومصر رؤية واضحة ومنسجمة للتعامل مع الخيارات الأميركية بحلوها ومرّها.
عدا اليمن، حيث تعرّضت إيران لإخفاقها الأول والأكبر على رغم أن أتباعها مستمرون في مسلسل التخريب، فإن زخم البحث عن حل سلمي- سياسي في ليبيا تجدّد بمبادرة إماراتية أعادت تفعيل الدور المصري، كما أن الاستحقاق المقبل في العراق يكمن في استرجاع الحضور العربي بدءاً بالسعودية كعنصر لازم وضروري لبناء شيء من الاستقرار في مرحلة «ما بعد داعش»، أما سورية فمن المؤكّد أن التحالف الروسي- الإيراني لن يتمكّن من تجاوز حقيقتها العربية ومن الواضح أنه لن يستطيع وحده إنهاء الصراع أو فرض حل تقسيمي إلا بغطاء أميركي- أوروبي. وأيّاً تكن الخيارات التي ستطرحها واشنطن بالنسبة الى فلسطين فإن عدم توازنها وانحيازها لإسرائيل كفيلان بإحباط التوصّل الى سلام كهدف منشود، خصوصاً أن الولايات المتحدة برهنت على مدى اداراتها تجاهلاً لحقوق الشعب الفلسطيني وعدم اهتمام بإنهاء الاحتلال وتغطيةً لمواصلة سرقة الأرض بالاستيطان أو بغيره.
منذ شهور لم يعد ميزان القوى في اليمن لمصلحة ميليشيات الحوثيين وعلي عبدالله صالح، وباتت إمكانات الحسم العسكري متوافرة لدى «التحالف العربي» من خلال الجيش والمقاومة المواليَين للحكومة الشرعية. هذا الوضع يشكّل منعطفاً يتطلّب أقصى درجة من الحسّ بالمسؤولية إزاء مستقبل اليمن شعباً ودولةً، وهو لم يكن يوماً من سمات الانقلابيين، وإلا لما انخرطوا في مشروع السيطرة على كامل البلد. وإذ يدركون أنهم خسروا زمام المبادرة وإمكان المراهنة على التقارب الإيراني- الاوبامي للحصول على تسوية سياسية مريحة، فإنهم يسعون الآن الى تأمين بقائهم بمعاندة أي اقتراحات للتفاوض وبالتوجه الى حرب عصابات مديدة. ما يشجعهم على ذلك أن إيران نفسها تدرس خططاً للتوتير في مواقع نفوذها ردّاً على التحدّي الأميركي الذي سينعكس حتماً على التوجّه الى الحسم، تحديداً في اليمن.
يُفترض أن يكون المنعطف المرتسم حالياً في ليبيا الأكثر إيجابية والأقل تعقيداً، حتى لو لم تكن الاستحقاقات المطلوبة سلسة ومسهّلة. ذاك أن وجود أطراف خارجية، بالأحرى عربية، دافعة في اتجاه بناء الدولة وانهاضها، كذلك وجود إرادة دولية تغلّب الحل السياسي على الصراع العسكري، إضافة الى نسبة معقولة من التوافق السياسي بين الأطراف الليبية – كما ظهرت في اتفاق الصخيرات وأخيراً في لقاء أبو ظبي بين رئيس حكومة الوفاق فايز السرّاج وقائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر… فمن شأن هذه العناصر، إذا تفاعلت جيّداً، أن تؤمّن مخرجاً من الأزمة. لكن الموقف الأميركي يتطلّب مزيداً من الوضوح لئلا يربك الوسطاء أو يرسل إشارات خاطئة الى الميليشيات المتضرّرة من أي حل يطوي صفحة الفوضى القائمة.
يُنظَر الى مرحلة «ما بعد داعش» في العراق، وإلى الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان، على أنهما استحقاقان مفصليان بالنسبة الى وحدة العراق. الأول يطرح حتمية انجاز مصالحة وطنية عانت من تلاعب نوري المالكي بمقوّماتها مسوّفاً أو متهرّباً الى أن رماها في شباك «داعش»، ويعمل الإيرانيون الآن من خلال المالكي وميليشيات «الحشد الشعبي» على إعادة انتاج وضع في «المناطق المحرّرة» مشابه للذي كان عشية ظهور «داعش» وانتشاره. وعلى رغم أن حيدر العبادي ينأى بنفسه عن عملية الاختراق التخريبي المنهجي للإيرانيين وأتباعهم إلا أنه لا يستطيع منعها. أما الاستحقاق الآخر، أي الكردي، وإنْ كان مبرّراً بسياق الفدرلة الدستورية ومآلاته، فإن نتيجته المنطقية على المستوى العراقي العام تذهب في اتجاه تفتيت ما كان يُعرف بـ «العراق». صحيح أن التوجّه الانفصالي لدى إقليم كردستان معروف ومعلن إلا أن «ايرنة» نظام بغداد ومحافظات الوسط والجنوب ثم «دعشنة» محافظات الشمال السنّية لعبتا دوراً في حسمه وتسريعه. وإذ يعوَّل على الدور الأميركي المعزّز للجيش ولاستعادة الدولة من سطوة إيران، وعلى دور عربي يُحدث توازناً داخلياً، إلا أن الرهان شائك فطهران يمكن أن تضحي بأي شيء إلا بنفوذها في العراق.
أما في سورية فتثير «مناطق تخفيف التصعيد» شكوكاً في كونها اختباراً خارجياً أوليّاً لمشاريع التقسيم أكثر مما تشيع تفاؤلاً بوجود نية روسية حقيقية لوقف الحرب. فالخطة المطروحة تدشّن نوعاً من «المعازل» مقطّعة الأوصال، إمّا للالتفاف على أي «مناطق آمنة» طرحتها إدارة ترامب ولم تعد تتحدّث عنها، أو لتوظيف «مناطق تخفيف التصعيد» في ابتزاز فصائل المعارضة والضغط عليها للتفاوض على «مصالحات» قسرية سبق أن جُرّبت وانتهت الى موجات تهجير. حاولت روسيا إنجاح «آستانة 4»، أو الإيحاء به، كجزء من اختبار فرضته الولايات المتحدة عليها بعد القصف الكيماوي لخان شيخون، غير أنها لم تكن مقنعة في قدرتها على ضمان التزام الأسد وإيران وقف النار، ولا في قدرتها على جعل النجاح المزعوم لـ «آستانة 4» قوة دفع لتفعيل «جنيف 6» وبالتالي لإطلاق تفاوض جدّي. عملياً، لا تزال واشنطن تراقب، وقد يكون اعتراضها على «إيران كضامنة للهدنة» أحد ملامح الاستراتيجية التي لم تفصح عنها بعد بالنسبة الى سورية، لكن اللافت أنها لم تعترض على تقسيم المناطق.
كان استقبال الرئيس الفلسطيني في البيت الأبيض خطوة إيجابية، لكنها ربما تعني عكس ما تبديه. معروفٌ أن الإدارة الأميركية تدرس مبادرة لتحريك المفاوضات، ولئلا يكرّر ترامب تجربة أوباما فإنه سيتبنّى أطروحات بنيامين نتانياهو تجنّباً لأي خصام أو صدام مبكر معه، ولكي يؤمّن شيئاً من القبول لهذه الأطروحات سيحاول الاستعانة بـ «الأصدقاء» العرب استدراجاً لـ «المرونة» أو التنازلات الفلسطينية. وبمعزل عن تفاوت المواقف، لا بدّ أن الفلسطينيين والعرب يريدون في نهاية المطاف سلاماً يمكن لمسه والتعايش معه، لكنهم أدركوا بالتجربة كما أدرك المجتمع الدولي عموماً أن «السلام» مع نتانياهو كان مستحيلاً ولا يزال، فإرادة السلام منعدمة لدى زمرة المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية ما لم يكن مطابقاً تماماً لمشاريع إدامة الاحتلال بالاستيطان والهيمنة على الاقتصاد الفلسطيني وطمس أي حقوق تاريخية أو حالية للفلسطينيين. وها هم يحرّكون لتشريع «يهودية الدولة» لتصبح أمراً واقعاً مفروضاً حتى على ترامب عشية زيارته المنطقة.
بمقدار ما تبدو هذه المنعطفات معنيّة بمعالجة تلك الأزمات الخمس وما يتفرّع عنها، وبمقدار ما تقترح مشاركة عربية، إلا أنها بطبيعة الحال ذات وجوه متعدّدة ومتناقضة. فالمحرّكون الأميركيون وغيرهم يتجاذبون الأدوار العربية معتمدين على استغلال وباء الإرهاب من جهة، وعلى أن المنطقة لا تزال تعاني من صدماتها ووعكاتها. وعدا الأثمان الثقيلة التي دفعتها المنطقة بسبب الإرهاب وجماعاته، فإنها في بحثها عن الصيغة الممكنة لاستعادة الاستقرار أو لتثبيته تبدو الآن مدعوة الى خيارات صعبة، كأن يستبدل العرب كفّ الشرور الإيرانية بـ «مصالحة» إسرائيل من دون إنصاف الفلسطينيين ومن دون سلام، أو أن يسترضوا روسيا بقبول الاستبداد في سورية لـ «خلاص» غير مضمون من الإرهاب، أو أن يرتضوا مشاريع تقسيم هدفها تأمين مصالح الدوليين والاقليميين.