IMLebanon

تمرين جديد في باريس وعقبتان 

 

الفضيلة الرئيسة لانعقاد مؤتمر باريس اليوم حول الحلول السلمية للقضية الفلسطينية هي أنه يذكر العرب الغارقين في الحروب الداخلية وأنهار الدماء الناجمة عنها بقضيتهم الأم، التي تراجع اهتمامهم بها على رغم مركزيتها وأولويتها.

يبدو المؤتمر بالنسبة إلى النخب والقيادات العربية المنشغلة بالحرب السورية والعقبات أمام استئناف المفاوضات في جنيف، وبـ «داعش» وبأزمة اليمن والخروق العسكرية للهدنة فيه وبتحرير الفلوجة وبمحاولة تثبيت حكومة الوفاق في ليبيا… كأنه حدث يأتي في وقت مستقطع من مجريات حروب تختلط فيها المذهبية بأعلى درجاتها والعرقية مع المصالح الدولية التي أخذت تقود المنطقة إلى التقسيم وتغيير الخرائط التي تؤسس لحروب جديدة وليس لتسويات واتفاقات.

كان يمكن اعتبار الاهتمام الفرنسي بعقد المؤتمر تعبيراً عن قناعة غربية بأن وضع حد للتطرف والنزاعات في المنطقة يتطلب التوصل إلى الحل السلمي الموعود لقضية فلسطين، طبقاً للقناعة بأن إنهاء مأساة الشعب الفلسطيني يسحب البساط من تحت أرجل التيارات الإرهابية التي باتت تعمل في أوروبا ودول الغرب. وكان يمكن الحديث عن صحوة غربية حيال القضية المركزية التي تسكن وجدان العرب وتشكل السبب الجوهري لموقف أجيال ضد الدول التي تغاضت عن الشراسة الإسرائيلية في السعي إلى إلغاء الحق الفلسطيني. إلا أن المجتمع الدولي الذي يعجز عن تطبيق قراراته الدولية حيال الأزمات المستجدة، وفي أبسط بنودها، مثل إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في سورية وفي اليمن والعراق، سبق أن ضرب بعرض الحائط قراراته في شأن الأزمة المزمنة وحول وقف الاستيطان الإسرائيلي وإقامة الدولتين.

رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو المؤتمر واقترح اجتماعاً مع الرئيس محمود عباس بدلاً منه لاستفراد الجانب الفلسطيني مرة أخرى ولاشتراط تقديم الإجراءات الأمنية على التفاوض السياسي، في وقت، لا أبو مازن، ولا غيره، قادر على منع الشعب الفلسطيني من استنباط أساليب المواجهة مع الصلف الإسرائيلي. فأي قيادة فلسطينية تستطيع منع شاب أو فتى أو فتاة من التضحية بنفسه من أجل طعن جندي أو مستوطن بالسكين؟ استبدل الفلسطينيون بالسلاح الأبيض، البدائي، ما يعتبره المجتمع الدولي إرهاباً عبر العمليات الانتحارية بالأحزمة الناسفة والمتفجرات.

ينعقد المؤتمر في ظل انكفاء عربي قل نظيره، فكل من دول الإقليم منشغل بأوضاعه الداخلية ومحيطه الإقليمي. وهو نقطة الضعف الرئيسة فيه. ولم يكن عن عبث أن نتانياهو ذهب إلى أقصى التطرف بضمه أفيغدور ليبرمان، رمز الكراهية للعرب والفلسطينيين، إلى ائتلافه الحكومي، وأخذ يطلب تعديل المبادرة العربية الصادرة عام 2002 القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام، قياساً إلى التطورات الحاصلة منذ ذلك الحين. فهو يدرك مدى ضعف العرب وتشتتهم، مقارنة بوضعهم في القمة العربية التي أنتجت المبادرة في بيروت، ويعي أن التنازلات المطلوبة من السلطة الفلسطينية يمكن أن تؤخذ من القادة العرب بعدما ظهر وهنهم، ويعتمد على حاجة الدول الكبرى إلى التنسيق مع إسرائيل حول تدخلها الظاهر والمستتر في الحروب العربية الدائرة.

كما أنه يراهن على قصر نفس إدارة باراك أوباما في التعاطي مع الحقوق الفلسطينية. فالأخير الذي تقترب ولايته من النهاية تراجع عن وعوده للفلسطينيين بالدولة ووقف الاستيطان من دون أي حرج. حتى «التهديد» الذي صدر عن بعض معاوني أوباما بأنه قد يتجه إلى اعتراف مبكر بالدولة الفلسطينية قبل مغادرته البيت الأبيض مشروطاً بتكريسه بعد انتهاء المفاوضات بين الجانبين، على أن يكون إرثاً ضاغطاً على قادة الدولة العبرية، في علاقتهم مع الإدارة الجديدة، تلاشى. فالإرث الوحيد الذي يهتم له أوباما هو الاتفاق على النووي مع إيران.

وفي كل الأحوال، فإن مؤتمر باريس أمام عقبتين يستحيل تجاوزهما: المسايرة الفرنسية والأميركية لشرط نتانياهو اعتراف السلطة الفلسطينية بيهودية إسرائيل، وتدويل القدس والأماكن الإسلامية المقدسة. ومن المحال انتزاع هذين التنازلين من أبو مازن. فهو مثل غيره، كائناً من كان، يذكر أن الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان الأقدر على تقديم التنازلات، امتنع عن تقديمهما لإيهود باراك أواخر التسعينات قائلاً إنه لو قبل بهما لكانت جثته علقت على أسوار القدس. فيهودية الدولة تعني تسليماً مسبقاً بطرد عرب إسرائيل منها، والتخلي عن القدس يقود إلى دولة مسخ، كأنها لم تلد.

لا تستطيع القيادة الفلسطينية أن ترفض المبادرة الفرنسية التي واكبتها محاولة من مصر للتشجيع على المصالحة الفلسطينية المتعثرة والتي تزداد صعوبة إتمامها حالياً، بسبب تدخلات إيران المتجددة في الساحة الفلسطينية. لكن المؤتمر تمرين آخر على العملية التفاوضية، بعد أن كان آخر التمارين عام 2012.