دخل لبنان المأزوم بكوارثه في ظلّ حكومة مستقيلة مرحلة تقطيع الوقت مع مرور الأسبوع الأوّل من الشهر الجاري، في غياب مساعٍ جديّة لتشكيل حكومة جديدة تلاقي المبادرة الفرنسيّة عند منتصف الطريق حيث تعهد الرئيس ايمانويل ماكرون بتنظيم مؤتمر دولي لتوفير الدّعم للبنان. في المقابل وبعد فشل المساعي الفرنسيّة في الدّفع بتشكيل الحكومة، لم يقدّم الرئيس الفرنسي اي مسعىً لإنعاش مبادرته السياسية باستثناء الاتكال على القوى السياسيّة البائدة لتأليف حكومة طوارئ في أسرع وقت ممكن. وقد فات ماكرون أنّ من تسبّب بانهيار لبنان وسرقة مقوّماته لا يُمكن الوثوق به لإيجاد الحلول واجراء الإصلاحات ووقف الهدر والفساد.
مآل المبادرة الفرنسية
من ثوابت المبادرة الفرنسيّة تشكيل حكومة مصغّرة من اختصاصيين لا ارتباط لهم بأيّ جهة سياسيّة. وبالرغم من اعلان القوى السياسيّة تمسّكها بالمبادرة وشروطها، الّا أنّها فشلت بسبب تمسّك «الثنائي الشّيعي» بوزارة المالية بحجة «الميثاقيّة» وتسمية وزرائه في الحكومة، ما دفع الدكتور مصطفى أديب الى الاعتذار عن تشكيل الحكومة.
وقد استند الرئيس الفرنسي على القوى السياسيّة لتأليف حكومة طوارئ في غضون ٦ أسابيع بدءًا من آخر شهر أيلول، في حين ينتظر اللبنانيّون أن يفي بتعهّداته لهم من خلال مسعىً جديد يعيد الزّخم للمبادرة الفرنسية، وربّما يكون ذلك بعد وصول السفيرة الفرنسية الجديدة آن غريو الى بيروت خلال ايام قليلة.
ومن المرجّح أن يعمد الرئيس الفرنسي إلى تدويل مبادرته لتشتمل على اتصالات مع أصدقاء فرنسا، إضافة إلى الدول المعنية بالشأن اللبناني، كالولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي، لضمان النجاح من خلال اتفاق سياسي شامل على الحكومة العتيدة وبرنامجها الوزاري.
نحو حكومة «تكنوسياسية»
عاد البحث في تشكيل الحكومة إلى صيغة حكومة «تكنوسياسية» تجمع بين الاختصاصيين والسياسيين انطلاقاً من نسخة منقّحة «مُلبننة» للمبادرة الفرنسية، وهي الصيغة التي طالما كانت القوى السياسيّة البائدة مقتنعة بها وتدفع باتجاهها.
والمتوقّع أن يقوم المسعى الجديد على تشكيل حكومة من عشرين وزيراً، بينهم رئيس حكومة وخمسة وزراء دولة يمثلون الطوائف والقوى السياسية الست الكبرى اضافةً الى أربعة عشر وزيراً مستقلّاً من أصحاب الاختصاص، في محاولة لإنقاذ البلد من الأزمات التي تكبّله وتنفيذ ما ورد في إعلان اتفاق الإطار المستجدّ لترسيم الحدود. الّا أنّ مسألة «شيعيّة» وزارة الماليّة ستعود الى الواجهة مع تمسّك «الثنائي الشّيعي» بها أكثر من أي وقت مضى، وهو لن يسهّل تشكيل أي حكومة ما لم تكن وفق شروطه وتحقق له مطالبه.
ويتجّه رئيس الجمهوريّة الى تحديد موعد للاستشارات النيابيّة المُلزمة لتسمية الرئيس المُكلّف مطلع الأسبوع المقبل، الّا أنّ الامر يتوقف على استمزاج ما تريده الكتل النيابية والاتفاق سلفاً على شخص الرئيس المُكلّف وشكل الحكومة وعدد حقائبها من خلال مشاورات يجريها رئيس الجمهوريّة تمهيداً للاستشارات النيابيّة، ممّا يعني العودة الى بدعة التأليف قبل التكليف، مع احتمال أن تتبلور الأمور أكثر مع وصول موفدين دوليين إلى لبنان في الأيام المُقبلة.
ويرغب رئيس الجمهوريّة بأن تكون الشخصية المُكلّفة «من أصحاب التجارب السياسية لأن المثاليات وحدها لا تكفي لقيادة البلاد» بحسب قوله، في حين صرّح رئيس مجلس النّواب «إن البحث ما زال جارياً عن رئيس وزراء عاقل يستطيع مع الوزراء مواجهة التحدّيات» ومواكبة المفاوضات لترسيم الحدود مع الكيان الصهيوني.
كلام الرئيس برّي طرح علامة استفهام حول المقصود بكلمة «عاقل» وإذا كان المقصود منها أن يكون الرئيس المُكلّف من أصحاب الخبرة والاعتدال في المواقف السياسية، أو أن يكون متساهلاً مع طلبات القوى السياسيّة، لا سيّما لجهة اسناد وزارة المالية الى «الثنائي الشّيعي» والقبول له بتسمية وزرائه في الحكومة. ولكن ايّ رئيس حكومة «عاقل» بحاجة الى أن يكون من يتعاطى معهم من العاقلين الذين يديرون شؤون البلاد بالعقل والمنطق الوطني وليس من خلال النعرات والمصالح والمكاسب، بدءًا بالرؤساء الآخريْن، مروراً برؤساء الأحزاب والتيّارات، ووصولاً الى والوزراء والنوّاب.
انعكاسات تأخير تشكيل الحكومة
إنّ فشل المبادرة الفرنسية وعودة مساعي التشكيل الى المربّع الأوّل يعني أنّ لبنان غير مستعدّ للقيام بالإصلاحات الملحّة في بنيته الاقتصاديّة والماليّة والسّياسيّة، ما يدفع الدّول المانحة الى الابتعاد عن لبنان كون المجريات لا توحي بالثقة تجاه الطبقة السياسيّة.
وبالتالي ستجمّد الدّول المانحة استثماراتها الوافدة إلى لبنان، لأنّ هذه الدول تربط خطواتها بتحقيق الإصلاحات التي لم تتم بسبب الأزمات السياسية المتوالية، والتي رتّبت أعباءً إضافية على المواطن، ما سيؤدي الى تفاقم الانعكاسات السلبيّة على الواقعين المالي والاقتصادي، وعلى مستوى الاستقرار السياسي والأمني في البلد، ناهيكم عن الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، واستمرار تجّار السّلع برفع مستوى الأسعار، وارتفاع معدّلات الفقر والبطالة، وغيرها.
عود على بدء…
إنّ المطلوب في ظلّ الانهيار الاقتصادي والمالي المتسارع الذي يطوّق لبنان هو تمهيد الطريق للسماح بتدفّق المساعدات الغربيّة والعربيّة لإنقاذ البلد وشعبه الذي يُذبح مراراً وتكراراً. ويكون ذلك من خلال تنازل القوى السياسيّة البائدة عن شروطها الحكوميّة ومصالحها الطائفيّة والفئويّة والإفراج عن تشكيل حكومة جديدة تضع برنامجاً إنقاذيّاً واصلاحياً حقيقياً وقابلاً للتطبيق، وتحصل من خلاله الحكومة على ثقة اللبنانيّين قبل المجلس النيابيّ، وتستعيد الثقة العربيّة والدوليّة.
لكن ليس في الأفق ما يشير إلى احتمال التوصّل الى حلّ قريب للأزمة اللبنانية بانتظار ما ستؤول اليه الأوضاع الإقليمية والدولية، وربما ستبقى حكومة تصريف الأعمال، في ظلّ الكلام عن تعويمها، إلى حين الانتخابات الرئاسية الأميركية أو تبلور ملفّ ترسيم الحدود بين لبنان والكيان الصهيوني بوساطة أميركيّة، وبعدها يُبنى على الشيء مقتضاه.