يعتبر علم السياسة أنّ منظومة العلاقات الدولية عملية شديدة التعقيد ومتشابكة جداً، وقد يدخل في أكثر مؤثراتها العديد من العوامل المادية المعنوية كما المرئية والمستورة … ويستطرد العلم السياسي ليؤشر إلى العديد من النظريات التفسيرية للسلوكيات الدولية، وتركّز كل واحدة منها على مصلحة معينة من المشهد السياسي العام . لذلك، ووفقًا للمنطق، إنّ عملية دراسة وتمحيص وشرح السلوك الدولي لأزمة معينة هي عملية جد صعبة، لما تتضمنه من متغيّرات وعوامل كثيرة قد تؤثر في طبيعة منظومة أي معادلة تُطرح لمشكلة ما .
هناك العديد من الأمور الملتبسة على الساحة اللبنانية، منها صعوبة فهم طبيعة الحياة السياسية للذين يمتهنون العمل السياسي، وفي أغلبيتهم يحملون العقل التجاري، إضافةً إلى العديد من القوى الخارجية التي تُمسِك بأغلبية الأوراق اللبنانية وتُحرّكها غُبَّ الطلب وفقاً لظرف تحدِّدهُ هذه القوى. كما أنّ هناك العديد من الأمور الملتبسة على الساحة اللبنانية، وهو الأمر الأهم من الذي إستعرضناه، وهو صعوبة فهم تقاطعات المصالح في السياسة الدولية.
وغالباً ما يستنتج بعض الباحثين الطارئين، وما أكثرهم في هذه الأيام، تفسيرات جد سطحية ركيكة ملتبسة ومختزلة لصالح من يموِّلْ تلك الأبواق. لنأخذ مثلاً ما حصل في الآونة الأخيرة حول موضوع تشكيل الحكومة والطريقة التي تشكّلت فيها، لنرى أنّ أكثر من دولة متصارعة إلتقت مع بعضها البعض في نقطة محدّدة، ولاحظنا السرعة القصوى في تشكيل الحكومة، وإنّ حالة العداء أو الصراع المباشر على نفوذ ما في المنطقة، هو عملياً عبارة عن مسرحية لا أكثر ولا أقّلْ …
مرحلياً تشهد سياسات اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً في الجمهورية اللبنانية، تقلّبات مهمّة وحتماً إستراتيجية، وتتمثل معظم هذه السياسات بالغموض في ما يتعلق بالعديد من الأزمات، ومنها الأزمة اللبنانية وخصوصاً بعد تفجير مرفأ بيروت وتطنيش المجتمع الدولي عن مصارحة حقيقة ما حصل قبل وبعد التفجير … هذا من جهة، ومن الأخرى، رغم تفاقم الأزمات إلى حروب دموية طاحنة في بعض الأحيان، من الملاحظ أنّ أطرافاً فاعلة ولاعبة على المسرح السياسي الإقليمي والدولي وحتى المحلّي، بدت غير قلقة على مصالحها من تفاقم هذه الأزمات، وهي عملياً تُمارس سياسات متناقضة حتى مع ما يُعرف في علم السياسة بـ «مبادئ القانون الدولي» …
ومن الملاحظ علمياً، أنّ هذه السياسات تضع لبنان وأغلبية الدول في أتون حروب تحرق الشعوب وأوطانها وتستنزف الجيوش والجماعات الفكرية وحتى المجتمعات، وتُحيلها إلى كيانات هشّة ومنقسمة على نفسها، لا تكاد تؤمن بأنّ لها دوراً، وهذا يؤشر إلى عملية تفكيك ممنهجة، بعد أن يكون قد أصاب التمزُّق الداخلي هذه الدول والجماعات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر لبنان.
من المؤسف ملاحظة النظام اللبناني الذي أصبح يفقد يوماً بعد يوم من شرعيته وهيبته، بسبب عدم إرتباط الجهاز الشرعي المكوّن من السلطات التنفيذية التشريعية الإجرائية القضائية، بعنصر الديمومة والصدق وتطبيق القانون، وإرتباطه بظرف معيّن، وقد فقد صدقيته داخلياً وإقليمياً ودولياً، وبخاصة في مواجهة مشاكل جديدة وربما مستعصية، سواء على المستوى الداخلي، إثر التغيّرات التي تحصل من حين إلى آخر في المجتمع اللبناني كماً ونوعاً، أو على المستوى الخارجي، خصوصاً بعد ذوبان الطبقة السياسية في لعبة المحاور التي أفقدت حضورهم على طاولة المفاوضات. وبالتالي، وفق العلم السياسي، من الواجب على هذا النظام أن يجد سندًا آخر ومصدراً آخر يرتكز عليه من أجل بقائه وإستمراره …
وهذه المصادر هي المنابع السياسية التي يحدّدها علم السياسة التي لا تمثلها رموز ساقطة عفنة، ولا الأيديولوجية المستوردة. إنّ الجمهورية اللبنانية تحكمها علاقات زبونية، والتعبير الأكثر دقّة في اللغة الفرنسية هو «Relation Clientelistes»، لذلك أصبح الأمر حلبة تتصارع فيها المصالح الدولية، ممّا جعل كل طرف في لبنان يستعمل نفوذه من أجل الثأثير على شكل توزيع الأدوار والوزارات. وما المشاكل التي يعيشها لبنان حالياً إلاّ نتيجة ذلك الأمر . لكي يفهم القارئ ما معنى وهدف التسوية السياسية، ولكي يتفاعل سلباً أو إيجاباً معها، على أي باحث أن يشرح مفهوم التسوية السياسية ومناقشتها وبإيجاز.
وبالتالي، يمكن حصر التعريف في ثلاث نقاط جوهرية وهي: التوفيق ومدى شمولية التسوية وميزان القوى. ووفق العلم السياسي، إنّ أي تسوية سياسية لأي صراع أو مشكل عالق، هي محصلة دقيقة لميزان القوى بين أطراف الصراع. واقع اليوم تسوية تشوّه الوطن. ومن المؤسف أنّ ساسة لبنان تعاطوا مع هذه التسوية من منطلقات مختلفة. بعضهم يتعاطى على الهامش كي يبقى حيث هو، والبعض الآخر يتعاطى بالحدس «وخلّيها ع الله»، وبعضهم بالتجربة، علّه إذا جرّب وطنّش يبقى في مكانه. الفكر السياسي الإستراتيجي الواعي يستشعر مؤامرة كبيرة على لبنان، وأمام خطورة المرحلة، هناك عملياً غياب الحِّسْ الواقعي لدى اللبنانيين في تعاملهم مع مشكلاتهم، والأمر المؤلم تحميل اللبنانيين الآخرين مسؤولية ما يحدث في لبنان، والميل غير العقلاني إلى الإعتقاد أو التسويق، بوجود خطط ومؤامرات محبوكة في الخارج، بدءًا بالسياسات الدولية، التي يقوم كل مناصر لسياسي حالي بإعطائها تفسيره الخاص، والتي لا أساس لها، ومروراً بخطط معينة وإدّعاءات وهمية، وما عدا ذلك من تضليل ممنهج. التسوية تقوم على إجتهادات بشأن إعادة توزيع السلطة في لبنان بين الطوائف على حساب المسيحيين، لأنّهم الحلقة الأضعف والأكثر إرتهاناً للغرباء …
ينبغي الإعتراف، أنّه ليس من السهل على مسيحيي لبنان كسلطة وقيادات وكمؤسسات كنسية، أن يواجهوا ويتغلّبوا على ما يُحاك من تسوية … وهذا يعني، أنّه لا يعفي القيادات المسيحية الرسمية وغير الرسمية من الأخطاء الكبرى التي إرتكبوها وما يزالون، والناتجة في معظمها من غياب الفكر الإستراتيجي لدى هذه القيادات … فالتسوية حاصلة من حيث المبدأ، وأولى طلائعها تشكيل حكومة الرئيس ميقاتي … والخلاصة تقول: إذا الفكر الإستراتيجي المسيحي، هذا إذا وُجد، غير قادر على إلغاء مفاعيل التسوية، فهو في أضعف الإحتمالات قادر على حصر هذه المفاعيل وإبقاء نتائجها السلبية في حدّها الأدنى، حتى إذا لاحت فرصة الخروج على هذه التسوية إقتنصها المسيحيون. هل من يقرأ بين السطور عنوان هذه التسوية المذلّة التي ستطيح الأخضر واليابس.