لا بأس في مفاخرة “حزب الله” بأنه كسر ما يسميه “الحصار الأميركي” بسلاح المازوت الإيراني. ولا أحد يجهل أن ما كسره في الواقع هو القليل الباقي في الشكل من هيبة الدولة الرسمية مع فتح ثغرة في جدار الإحتكار. لكن لبنان الذي في أزمة أسوأ من أزمة “الكساد الكبير” في أميركا خلال ثلاثينات القرن الماضي يحتاج عملياً الى تعلم درس أميركي في المعالجة. فحين تولى فرانكلين روزفلت الرئاسة في عز الأزمة سارع من ضمن أولوياته الى تقديم علاجين: أولهما إعادة إحياء الوضع المالي والإقتصادي المفلس ببرنامج إنفاق هائل إسمه “الصفقة الجديدة”، حسب نظريات الإقتصادي الإنكليزي جون ماينارد كينز. وثانيهما إيمانه بأن “العلاج الإقتصادي الحقيقي يجب أن يبدأ بقتل البكتيريا في النظام أكثر من معالجة المظاهر السطحية”.
والسؤال طبعاً هو: أين لبنان من أميركا، ومن أين نأتي بمسؤولين من قماشة روزفلت ووزرائه؟ فلا بلد في العالم وصل حكامه الى مستوى ما حدث في لبنان من سطو رسمي بالقانون والقوة والتواطؤ على المال العام والخاص. ولو كان لبنان شركة أفلست، لسارع مجلس الإدارة الى الإستقالة وأُجبر على دفع ثمن ما ارتكبه وجرى تعيين “سنديكا” لإدارة الإفلاس قبل التعافي وإختيار مجلس جديد. لكن المافيا السياسية والمالية والميليشيوية التي استولت على ودائع الناس، وأنفقت نحو ثلاثمئة مليار دولار بينها مئة مليار بالإقتراض، وسجلت أرباحها من إفلاس البلد، بقيت في مواقعها الرسمية وغير الرسمية. لا محاسبة للمصرفي الذي قامر بأموال المودعين طمعاً بالربح من الفائدة، ولا لحاكم المصرف المركزي الذي مارس لعبة “الهندسات المالية” وأقرض الودائع لسلطة يعرف أنها لا تستطيع أن تردها، ولا للمسؤولين الذين نهبوا المال وأنفقوه في صفقات للمحظيين. فمن يقضي على البكتيريا في النظام؟
وعلى العكس، فإن هؤلاء هم المطلوب منهم إخراجنا من الهاوية التي قادونا إليها. وهذا ممكن في الأغاني على طريقة “اللي شبكنا يخلصنا”. أما في الواقع، فإنه كارثي وعدمي. والمسألة أكبر من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وأبعد. ولا معنى للإيحاء أن برنامج الحكومة هو المبادرة الفرنسية. فما أمامنا هو قتل الجانب السياسي من المبادرة لجهة “الإستقلالية” وتغطية الأمر بالكلام على إلتزام الجانب المالي والإقتصادي والإصلاحي. وأقل ما ينطبق على الأمل في ما يمكن أن تفعله النيات الحسنة لبعض الوزراء هو قول مارشال شولمان الشهير: “يؤتى بالرجال الجيدين من أجل سياسات سيئة”.
ولا أحد يتوقع أن يلعب الوزراء أدوار الفدائيين بالتمرد على المافيا التي جاءت بهم. لكن الكل يرجو أن يتمكنوا من إيجاد حلول للأمور المعيشية الملحة كأنهم “بلدية لبنان الكبير”. أما السياسات الكبيرة، فليست لهم ولا لسادتهم بل للقوى الإقليمية والدولية.
يقول أوسكار وايلد: “أعطه قناعاً لتعرف وجهه الحقيقي”. لكن الوجه الحقيقي للمافيا الحاكمة في لبنان معروف ومكشوف من دون الحاجة الى حكومة أقنعة.