يخشى كثير من المراقبين إطلاق التوقعات حول طبيعة المأزق الذي سيعيشه لبنان في المرحلة المقبلة، والمستوى الذي سيبلغه. لكنهم يسجّلون أنّ السلطة التي تدير البلد تستعد لفترة طويلة من لعبة تقطيع الوقت، انتظاراً لتحوّلات قد تظهر في المناخ الدولي-الإقليمي وتسمح بإنتاج التسويات.
لم تقدّم الانتخابات النيابية أي معطى جديد يمكن أن يحرّك المياه الساكنة في المستنقع اللبناني. وتبين أنّ التبدّلات التي جرت داخل تركيبة البرلمان محدودة الأثر، وأنّ القوى التي ترفع شعارات التغيير ليست مؤهّلة لتحقيقه واقعياً لأسباب متعددة. ولذلك، بقيت المبادرة في أيدي القوى السياسية التقليدية داخل المؤسستين التشريعية والتنفيذية.
وخلال الأسابيع القليلة الفائتة، تمّ ترسيخ «النموذج القديم» داخل المجلس النيابي بكل عدّته وآلياته. وفي ظلّه، يجري إحياء الحكومة المنتهية الصلاحيات إيّاها لتدير الأزمة وفق قواعد العمل الحالية، بلا تعديل، وتشرف على إدارة الاستحقاق الرئاسي.
يعني ذلك، منطقياً، أنّ هذا الاستحقاق سيكون محكوماً بالقواعد إيّاها، أي إنّ «النموذج القديم» هو الذي سيحسم ملف الانتخابات الرئاسية. وهنا يمكن تصور سيناريوهات عدة:
فهل يكون تكريس هذا النموذج بانتخاب رئيس من داخل الطاقم السياسي، أم ببروز «فتوى» مفاجئة تتيح للرئيس ميشال عون أن يبقى في الموقع، لأن لا حكومة فاعلة يمكنها أن تتولّى صلاحيات الرئاسة بالوكالة، أم يتمّ تكريس النموذج القديم بمجرد تعطيل الانتخابات ووقوع الفراغ في موقع الرئاسة؟
يتوقف بعض المتابعين عند مؤشر مهم رافق اختيار الرئيس المكلّف. فالرئيس نجيب ميقاتي، في تكليفه الجديد، لم يحصل على مباركة الكتلتين المسيحيتين الأساسيتين، «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية». فهل يحمل هذا العامل تبريراً إضافياً لعون كي يرفض منح الحكومة الميقاتية صلاحيات الرئاسة الأولى إذا تعطّل استحقاق الخريف؟
اياً يكن الجواب، فالبلد مقبل على مرحلة ركود جديدة. ومن الواضح أنّ قوى السلطة تستعد لها بكل العدّة التي تمتلكها، لتتمكن خلالها من الحفاظ على هياكل البلد، فلا يسقط نهائياً في الوقت المستقطع. والتحدّي الأكبر في هذا الشأن هو إبطاء الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي. وقد ظهر ذلك بالمؤشرات الآتية:
1- إمرار الوقت ببعض المسكنات التي يمكن توفيرها باستثمار الموسم السياحي، وخصوصاً بعد التراجع الكبير في سعر الليرة.
2- إستخدام احتياطات مصرف لبنان المركزي في عملية كسب الوقت.
3- دولرة الاستهلاك ورفع الدعم نهائياً، ما يلقي الأعباء على المستهلك ويمنح السلطة قدرة على إدارة الأزمة لفترة أطول.
٤- إظهار الانفتاح السياسي على العرب والقوى الغربية سعياً إلى الحصول على مساعدات.
5- إستخدام ورقة المفاوضات غير المباشرة حول آبار الغاز، لإرضاء الأميركيين، ما قد يمنح لبنان ضوءاً أخضر للحصول على غاز مصري وكهرباء أردنية.
6- الإيحاء بالاستعداد للركون إلى برنامج الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
7- إستخدام ورقة اللاجئين السوريين. فقد كان لافتاً تهديد لبنان بإخراجهم من أراضيه، باعتماد تفسير متشدّد للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء، إذا لم يستجب المجتمع الدولي للمطالب اللبنانية بتقديم الدعم اللازم له في هذا الملف.
وقد سبق للحكومات اللبنانية أن استخدمت هذه الورقة للضغط على المجتمع الدولي في مراحل سابقة، من أجل الحصول على مساعدات، وأعطت ثمارها. ولكن، ليس مضموناً أن تؤدي محاولاته اليوم إلى نتائج مجدية، لأنّ الأوروبيين، الأكثر خوفاً من انفجار أزمة النزوح والتدفق عبر زوارق الموت في المتوسط، يمسكون اليوم بورقة ضغط قوية على لبنان، هي ورقة الدعم المالي والسياسي التي يحتاج إليها لمواجهة العزلة الدولية والإقليمية.
ولبنان الذي يعيش على أمل نجاح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مبادرته لإنقاذ لبنان مالياً وسياسياً، وتعويم مساعدات «سيدر»، قد لا يكون له الهامش الكافي من الضغط بورقة النزوح السوري، لأنّ فرنسا قد تردّ عليه بأوراق أخرى أشدّ قساوة.
اذاً، المدة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية تبدو امتداداً لمسار التعثر والجمود السائد حالياً. وفي أفضل الحالات، لا فرص جديدة للخروج من المأزق قبل بداية السنة المقبلة، إلّا إذا حدث ما لم يكن في الحسبان في المناخ الدولي – الإقليمي.
وفي الترجمة، لا فرصة للبنان إلّا إذا تبدّل شيء في المشهد، من حرب أوكرانيا إلى مفاوضات فيينا، إلى مفاوضات الغاز التي تحتدم على شاطئ المتوسط. وحتى اليوم لا شيء مضموناً في أي من هذه الملفات.